في البدء دعونا نتفق أن لكل شيء إذا ما تم نقصان، و أن كل حضارة مهما بلغت ذروتها لا مناص أنها زائلة؛ وكم من حضارات سادت ثم بادت مهما تعددت أسبابها وذرائعها ،، فالحضارة النوبية مثلها مثل كل حضارات العالم سادت ثم بادت وهذه هي سنة الحياة.
وأن أولى خطوات إنهيار الحضارات تتمثل في الحروبات سواء كانت داخلية أو خارجية، وهذا ما حدث تحديداً في أواخر إنهيار الحضارة النوبية أو الكوشية وفي مرحلتها التي سميت بالحضارة المروية. فمنذ أن بدأت الحضارة من أقصي شمال السودان من بلانه وقسطل سنجد أنها كانت تتوغل جنوباً كل ما تعرضت للضغوط، سواء كانت بيئية تتمثل في الجفاف أو كانت حروب جيرة ( بلانة قسطل –كرمة –نبتة – مروي) فمروي هي بداية الإنهيار الكلي للحضارة.
تعددت أسباب إنهيار مروي بتعدد المصادر والباحثين والعلماء، ولكلِ منهم وجهة نظره الخاصة والمنطقية حسب ما يراه هو ،وزادت تفككها في أواخر أيامها وتعرضت لضعف باين . ومن أسباب تفككها بروز مملكة أكسوم وسيطرتها علي المنطقة عامة، وحتي مروي كانت تحت سيطرت الأكسوميين حسب ما جاء في نقش الملك عيزانا أبالميدا بالنص :
(أنا عيزانا بن إيلي أميدا، بسخالينا، نجاشي أكسوم، وحاكم حمير، وريدان وسبأ وسالهين، و حاكم سيامو و البجا وكاسو، نجاشي النجوش، ابن على أميدا الملك غير المهزوم أمام الأعداء).
يري عمر حاج الزاكي أن عيزانا عندما دخل في مناطق مروي أنها لم تكن سوي أنقاض، ولم تكن بها أي مظاهر مملكة وعزا ذلك إلى غزو وهجمات النوبة المتكررة وتحديداً النوبة السود؛ التي أتت من الصحراء ويجب توضيح نقطة هامة هنا عن النوبة السود ، ذهب معظم الباحثين للزج بين النوبة التي هاجمت مروي وبين النوبيين الحاليين، فحسب العالم زهلر والأستاذ أسامة النور وكذلك بروف سامية بشير فجميعهم أجمعوا علي أن النوبة السود حدودهم تبدأ من البطانة وتنتهي عند حدود الدبة؛ مما ينفي الخلط بين النوبيين، والنوبة السود الذين غاروا علي مروي ، حسب تنقيبات بعثة جامعة همبولدت في جبانـة بموقـع المصـورات الصفراء تنتمي لحضارة ما بعد مـروي. أكـدت الدراسة تزنج المجموعة مما يعزز أن النوبة السود كانت حدودهم بين البطانة و الدبة .
وكذلك إشتكى ملوك مروي من هجمات الرهرس بل إشتكوا أكثر من هجمات النوبة، كما إشتكوا من هجمات المقباري والبليميين وقبائل بدوية أتت من الصحراء وعملت علي السيطرة على القوافل التجارية؛ مما أضعفت حركة التجارة، وأفقدت مروي مكانتها التجارية وبدورها أدت إلي خلل وتدهور في الأقتصاد ، ربما كانت إنتفاضة ضد الحكم حينئذٍ.
وكذلك من أسباب ضعف وتفكك مروي هجمات الرومان المتكررة وسيطرتها علي منطقة أسوان في القرن الثالث فتأثرت مروى بالواقع الجديد، فكانت علاقاتها متذبذبة مع الرومان، فمرة تمتد سلطة المملكة المروية إلى أسوان، ومرة أخرى يهزمها الرومان ويحتلون نباتا العاصمة الدينية للمملكة، ونتجت من هذه الحروب أن تلاشت سلطة المرويين وأقفرت المدن والقرى، وأصبحت مناطق كثيرة من البلاد غير آهلة بالسكان إذ تبدو أن المملكة كانت محاصرة من قِبل أكسوم والرومان من جهة، ومن بين القبائل البدوية من جهة وتلتها الإنقاسامات داخل الدولة نفسها ولا نستبعد أن تكون هنالك أسباب عقائدية فقد تسللت المسيحية في النوبة في العام 37م عن طريق بعض الهاربين من الرومان، وكذلك هروب الرهبان بعد مضايقة الرومان لهم ، كما جاء ذكر خصي الكنداكة أماني في الأصحاح الثامن كأول مسيحي سوداني يعتنق المسيحية مع أسرته في العام 37م نفسه مما يعني أن المسيحية كانت قد دخلت حتي القصور الملكية،والجدير بالذكر هنا أنه كان وزيراً لها وقام بزيارة أورشليم القدس ولذا لا نستبعد الأسباب العقائدية من ضمن تفكك مروي.
وكذلك من العوامل التي نتج عنها سقوطها والتي تتمثل في العوامل البيئية، التي تدهورت بنسبة كبيرة مما قد كان السبب فيها هو زيادة النفايات الصناعية، الناتجة عن صناعة الحديد في البيئة والتي نتج عنها تلوثها، وحدوث الخلل بها، والقطع الجائر للأشجار وتدهور الغطاء النباتي ، ربما إتجه معظم المزارعين كذلك في صناعة وصهر الحديد كمصدر رزق جيد كبديل عن الزراعة التي لا تؤتي أكلها إلا بعد شهور فأدت بدورها إلي نقص المؤن،،
ليسجل بعدها التاريخ النوبي حقبةً جديدة من دورتها مع بروز الملك سيليكو الذي هزم الأحباش، وسيطر علي مدينة مروي وقام ببناء حضارة جديدة علي أنقاض حضارة مروي، وشهد عهده دخول الدين المسيحي وتعتبر مملكته أول مملكة تتخذ من الدين المسيحي ديناً رسمياً للدولة، وتليها المقرة وليمتد بعدها المد الروحي الإلهي حتي تصل إلي سوبا، وتلك هي الإستمرارية الحضارية .