يوم الأثنين 12 يوليو وفي تمام الساعة ال 8:17 مساءً بدأ العرض الأول لمسرحية النسر يسترد أجنحته في قاعة الصداقة ..
البداية
فُتح الستار على مشهد أيقوني مُتجسد في الظلام حول تماثيل متجمدة مُمتلئة بالغبار كأنما عفى عليها الزمن، تتناثر حولها عدد كبير من قوارير البلاستيك الفارغة ..
تماثيل أشبه ما تكون ديكوراً للعرض من شدة ثباتها .. بالقرب منها رجل بلحية كثيفة يتحرك ويشير بأصابعه كأنه يغزل أو يعزف أو ينحت شيئاً، وبعد برهة من الزمن نلاحظ حركة طفيفة، ومنها تبدأ كل التماثيل بالتحرك نحوه ..
زاوية نظر
هذا المشهد الطويل الخالي تماماً من الحوار والذي يكتفي فقط بالتصورات البديعية واللوحات الفنية والموسيقى في الخلفية القى الضوء على مختلف التصنيفات في السودان ..
فالرجل باللحية هو النحات والتماثيل هي أعماله الفنية المنحوتة التي تحاول التحرر، وفي سياق أخر فإن المنحوتات كِناية عن انسان السودان بمُختلف بيئاته وتاريخه ..
القوارير المحيطة بالتماثيل الممتلئة بالغبار ترمز لتحول بيئة المجتمع بالعموم إلى مكب نفايات أو بصورة مجازية إلى خلل في سلوكها أدى إلى طمس هويتها الأصيلة .. ويبدو كما لو تحتاج إلى تنظيف وتجديد لإستعادة بريقها ..
هذه البداية الرائعة كانت على أنغام قصيدة (قل للمليحة في الخمار الأسود)، وهي واحدة من أغاني كثيرة في هذا العرض المسرحي ..
ما بعد الدهشة الأولى
تتوالى المشاهد التشكيلية والرمزية التي تؤكد على محاولة العادات والتقاليد الرسوخ في مواجهة فيضان من الإستحداث الفكري .. وتدور معظم المشاهد حول الحب والفقد، الثأر والحرب، والموت في ظل العادات ..
في أحد المشاهد والذي يرتكز في تفاصيله عن شاب يقتل عشيقَ فتاةٍ ثم يتزوجها بالغصب .. لتأتي هي بعد الليلة الأولى محاولةً قتلهُ أثناء النوم .. ولكن بدلاً من ذلك نراها تقتل نفسها وتنتحر فيأتي اخوتها ويحاولون قتله لينتهي المشهد بصرخات النساء، وحمل جثمانها بعيداً وسط صدمة من الجميع ..
هذا المشهد وغيره تم عرضهم توالياً في سياق احتجاجي على قضايا كالزواج القهري، زواج الأطفال، ختان الإناث .. مُرسلةً لنا تصور عن صعوبة ما يلاقيه هؤلاء الأشخاص في حياتهم العامة والخاصة ..
الملامح الفنية
جمال المسرحية يتمثل في الكادرات البصرية الرائعة، والمكياج الفريد، والموسيقى التي ترسخ في الأذهان .. فمعظم الممثلين يجيدون الغناء والعزف وهو ما يصنع حالة من الإنتباه لموسيقاهم .. وكذلك الأزياء المنوعة والإنغماس الكامل في تفاصيل اللحظة والمشهد، والديكور العام الذي يحكي جزء كبير من القصة ..
الإضاءة مميزة جداً وتنتقل بسلاسة بين الإنارة الساطعة والخافتة حسب ما تستدعيه المشاهد ..
العرض الثاني
تم عرض المسرحية مرة ثانية يوم الأثنين الموافق 26 يوليو .. ووسط تلهفي لرؤية بعض المشاهد الجميلة في العرض الأول، وجدت أن جزء كبير من التفاصيل قد تغيرت ..
فالنص الأدبي في العرض الاول كان للدكتور الأديب الراحل من الله الطاهر، وفاءً وتقديراً له .. بينما تغير العرض الثاني بنسبة كبيرة عن العرض الأول حيث أصبح مزيجاً من الرقص المسرحي المعاصر والغناء يتخللها العديد من الطقوس كالزار، الجرتق، والنوبة ..
الفروقات بين العرضين تظهر في التفاصيل، وليد اهتم بجودة التمثيل والمشاهد الحركية ووضوح المغزى أكثر في العرض الثاني .. وخفف من المشاهد الرمزية المكثفة التي كانت في العرض الأول ..
المسرح السوداني في حاجة ماسة لمثل هذه النوعية من السرديات التي تغزو العقل بمشاهدها وتدفعه للتفكير في دلالتها التي تعبر عن قضاياه بشكل كبير وبصورة مثيرة ومعبرة ..
هذه أول مسرحية أشاهدها لوليد عمر بابكر والمشهور بوليد الألفي وبالطبع لن تكون الأخيرة، تجربة بصرية وموسيقية مبهرة لا تدعها تفوتك في قادم العروض ..
المسرحية أنتجها مركز أمدرمان الثقافي ومنطقة صناعة العرض المسرحي وبدعم من وزارة الثقافة والإعلام السودانية .. على أن تكون تذكرة الدخول إما التبرع بكتاب أو كسوة لبرد الشتاء ..
النسر يرمز للسودان في فترة وعهد الإنقاذ حيث اختفت أجنحته والأن وبعد ثلاثين عاماً استردها ليحلق حالماً قوياً في سماء الحرية .. وما الأجنحة الا تلك المنحوتات التي تمثل كل السودانيين بمختلف هيأتهم ..
11 تعليقات