السينما هي أعظم راوي للقصص… وهي النافذة التي تنقل المشاهد إلى حقب زمنية غابرة، عبر رحلة بصرية ممتعة يتعرف من خلالها على أحداث غيرت مجرى التاريخ وشكلت واقع ومستقبل شعوب بأكملها.
ومابين براعة السرد ودقة نقل الأحداث، يتراءى لنا ذلك الدور الكبير الذي تلعبه السينما كوثيقة تاريخية هامة، وثقت لوقائع وحقب تاريخية ماضية، ورصدت أهم الأحداث السياسية التي بلورت وعي الشعوب وكونت حاضرها.
فمن أمريكا وحتى شبه الجزيرة العربية مروراً بكوريا والهند، نستعرض معاً أفلاماً درامية لخصت حقب زمنية كاملة، وقدمت قراءة سينمائية وتاريخية لأهم الأحداث التي شهدتها تلك الدول.
Forrest Gump – قراءة سينمائية لتاريخ أمريكا المعاصر
مابين الدراما والتراجيكوميديا يقدم فيلم “فورست جامب” والذي أصبح من علامات السينما العالمية، يقدم مزج بديع بين البعد الأنساني والأحداث التاريخية التي شهدتها أمريكا من الخمسينيات وحتى الثمانينيات من القرن العشرين.
الفيلم في مجمله هو رحلة “فورست جامب” الساذج بطئ الفهم، في الحياة وأبرز المحطات التي ساهمت في بناء شخصيته ورسمت خارطة سياسية تاريخية لأمريكا في الوقت الحاضر.
فمن محطة حافلة بمدينة “سافانا” بولاية “جورجيا” يبدأ “فورست” في سرد حكايته، وعلى مدار 30 عاماً من عمره كان شاهداً خلالها على كل حدث تاريخي في تلك الفترة، فاثناء وجوده في الكلية قابل السياسي الأمريكي ومؤيد الفصل العنصري آنذاك”جورج والاس”، ثم وبعد إلتحاقه بفريق كرة القدم في الجامعة، يفوز فريقه بالبطولة الوطنية في دوري كرة القدم الأمريكية للجامعات، لتتاح له فرصة لقاء الرئيس الأمريكي حينذاك “جون كينيدي”.
بعد الكلية إنضم “فورست” للخدمة العسكرية بجيش الولايات المتحدة وشارك في حرب فيتنام، وبعد عودته وتكريماً له على شجاعته في الحرب يتسلم ميدالية الشرف من الرئيس “ليندون جونسون”.
حينها لم يكن هنالك موضوع يؤجج الوعي القومي أكثر من حرب فيتنام واؤلئك الذين تم أرسالهم للقتال في الخارج، فاندلعت الكثير من المظاهرات وأعمال الشغب المناهضة للحرب، وفي خضم ذلك يجد “فورست” نفسه وقد تحول بين ليلة وضحاها من بطل حرب إلى مناهض لها، يقود المسيرات المنددة ويخطب في الحشود.
لاحقاً وأثناء تولي ” ريتشارد نيكسون” للحكم، يلتقي ب”فورست” بعد مشاركته وفوزه في بطولة العالم لتنس الطاولة ويقدم له غرفة في فندق “ووترجيت” وبالصدفة يساهم “فورست” في كشف فضيحة ووترجيت التي أطاحت بحكم الرئيس “نيكسون”.
أما على الصعيد الثقافي فقد ساهم “فورست” في بداية موجة جديدة من الحراك الثقافي في أمريكا وألهم الكثير من الرموز الثقافية والموسيقية أمثال “إلفيس بريسلي” و “جون لينون” كما أبتكر الكثير من المصطلحات والشعارات التي كانت سائدة حينها.
يختتم “فورست” رحلته وقد غطى جميع الأحداث التاريخية والسياسية والثقافية في تلك الحقبة، وكان بمثابة المرشد السياحي لكثير من المعالم التاريخية والسياحية التي ظهرت في الفيلم.
Slumdog Millionaire – الهند كما لم ترها من قبل
عندما نذكر الهند فإن أول مايتبادر لأذهاننا هو تلك الصورة النمطية التي رسختها “بوليوود” في ذاكرتنا، لوحة بصرية فاتنة ومشهد لجميلة حسناء ترقص في منظر خلاب، أو مشهد فانتازي لبطل خارق يحارب خصومه ولا يُقهر….حسناً لنبتعد عن كل تلك الصور المنمقة ونغوص في الواقع الموحل لذلك المجتمع، ونتعرف على الوجه الآخر للهند، ذلك الوجه الذي يعريها ويظهر تجاعيد البؤس فيها.
فمن نص مقتبس للكاتب الهندي “فيكاس سوراب” قدم لنا المخرج البريطاني “داني بويل” ملحمة إنسانية مُلهمة عن ذلك الفتى المتشرد الذي أصبح مليونيراً، وعلى طريقة “الفلاش باك” جسد لوحة تشكيلية بانورامية لمجتمع كامل متعدد الأعراق والطبقات والبيئات.
“جمال مالك” ذلك الفتى البسيط، والذي بدافع الحب قرر الإشتراك في برنامج “من سيربح المليون”، ومع كل سؤال يطرحه مقدم البرنامج ينكشف الستار عن حياة الضنك والتشرد التي صنعت هذا الرجل الصغير.
ففي ضواحي مدينة غارقة في القذارة والفقر المدقع نشأ “جمال”، وفي طفولته شهد مقتل والدته على يد الهندوس آبان الفتنة الطائفية في الهند، وكنتيجة حتمية لذلك إختبر “جمال” حياة التشرد والضياع، ووجد نفسه وسط عصابات الإجرام حيث تجارة المخدرات والرقيق، القتل والسرقات، وإستغلال الأطفال في التسول والدعارة.
ومع تغيير إسم العاصمة من “بومباي” ل”مومباي” نرى التحول والتطور المعماري للمدينة، ونتابع رحلة المراهق جمال وهو يحتال على السياح في “تاج محل” قبل أن تتطور الأحداث وتبتلع تلك المدينه حبه وأخاه.
في النهاية ومن خلال قصة “جمال” صحبنا “بويل” في رحلة ثرية تعرفنا خلالها على الوجه الحقيقي للهند من دون رتوش أو تجميل، وعلى أنغام موسيقى “إيه آر رحمان” تجولنا في أروقة الثقافة والمعزوفات الهندية الجميلة. لنصل لنهاية الرحلة وقد جاوبنا على سؤال طرح في بداية الفيلم: كيف لمتشرد جاهل أن يعرف الإجابة ويكسب الجائزة الكبرى؟!!
ففي مدرسة الحياة هو مقدر ومكتوب،،،،،،،
(D) It’s written
Ode to My Father – قصيدة سينمائية وثقت لمابعد الحرب الكورية
هو أحد تلك الأفلام التي قدمت صورة مقربة لما مرت به كوريا قبل 60 عاماً، وتحولها لما نعرفه اليوم بأسم جمهورية كوريا الجنوبية.
فمن خلال دراما عائلية عن أسرة فرقتها الحرب، يعود بنا الفيلم إلى مطلع الخمسينات عندما كانت كوريا تأن تحت الأنقاض والرماد، ووسط فوضى اللاجئين الفارين من جحيم الحرب الكورية، يرى الصبي الصغير “دوك سو” مصيره يتغير في غمضة عين عندما فقد أثر والده واخته الصغيرة قبل أن يصعد على متن سفينة الإجلاء الأمريكية.
يستقر المقام بالمتبقي من العائلة في مدينة “بوسان”، حيث يكرس “دوك سو” نفسه لتأمين مستقبل عائلته، فيسافر للعمل في مناجم الفحم في ألمانيا، وهنا يعرج الفيلم على فترة هامة من التاريخ الكوري حيث كان شباب كوريا يهاجرون للخارج متحملين معاناة ومشقة لاتوصف من أجل بناء أنفسهم وبلادهم.
ومن ممرات الفحم الخطيرة في المانيا إلى قرى فيتنام التي مزقتها الحرب، يجد بطلنا نفسه وسط حرب أخرى يقاتل عدو ليس بعدوه، فقط من أجل حفنة من المال وعدتهم به الولايات المتحدة.
ينتقل الفيلم بعدها ليعرض لنا فترة أخرى هامة في تاريخ كوريا الجنوبية، حيث تبدأ الدولة الناشئة في إلتقاط أنفاسها وتشرع في مداوة جراحات الماضي عبر مشروع يهدف للم شمل العائلات التي فرقتها الحرب، لينجح “دوك سو” اخيراً في العثور على أخته الصغيرة والتي كانت من بين اليتامي الكوريين الذين تبنتهم عائلات أمريكية.
ختاماً،،،فإن فيلم”قصيدة إلى أبي” هو تحية تقدير وإحترام لاؤلئك الذين عانوا ويلات الحرب، وخاضوا نضالاً مستميتاً حتى تنهض كوريا من جديد وتنضم لركب الدول المتقدمة صناعياً وتكنولوجياً.
Lawrence of Arabia – رحلة تاريخية عبر شبة الجزيرة العربية
ما السر الذي يجعل ضابطاً بريطانياً ينخرط في حرب ضروس من أجل تحرير القبائل العربية من سلطة الحكم العثماني؟!!!
إجابة هذا السؤال قد تبدو ضبابية بعض الشئ، فقد يكون “توماس إدوارد” أو كما يعرف ب”لورانس العرب” قد أُفتُتن بالصحراء العربية وسكانها كما ذكر لذا قرر مساعدتهم، وربما يكون هذا أمر خُطط له مسبقاً من قِبل الدول الإستعمارية لتفكيك المنطقة حتى يسهُل عليها إحتلالها.
ولكن مما لا شك فيه أن سيرة هذا الرجل الداهية كانت حافلة بأحداث تاريخية هامة شكلت واقع المنطقة العربية الآن ورسمت حدودها الجغرافية.
وفي الفيلم المقتبس من قصة حياته يقدم لنا المخرج البريطاني “ديفيد لين” لمحة عن شبه الجزيرة العربية بداية القرن الماضي وحتى سقوط الدولة العثمانية وبداية عهد الإستعمار، وكيف أستطاع رجل واحد، من أن يستنهض أمة كانت ترزخ تحت وطأة العصبية القبلية، ويوحد صفوفها ليزلزل عرش العثمانيين ويقضي على سطوتهم.
بثوب عربي فضفاض ولهجة عربية خالصة أستطاع هذا الجندي البريطاني أن يعيد كتابة تاريخ هذه المنطقة، نصب حكومات وأسقط أُخرى، ودفع بأسماء مثل الملك فيصل في السعودية ونوري السعيد في بغداد، وهمش وأخرج أُخرى مثل الأخوين جزائري في دمشق.
وبالرغم من تباين واختلاف الأراء حول شخصية “لورنس” إلا أن الحقيقة الوحيدة الماثلة، هي أن شبه الجزيره العربية بعده لن تعد لما كانت عليه قبله.
2 تعليقات