ذكرى الرحيل المُر

ذات يوم كانت الأسطورة واقعاً، والواقع أسطوري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فقد شهد الجميع عليه، وأجمع وأثنى عليه الكبار والصغار، والشيب والشباب معاً، فهو من “فات الكبار والقدرو”…

 حتى نون النسوة كانت ضمن ذلك الركب الذي عاش في سفينة الإبداع ربع قرن من الزمان وأكثر، فعبرت عنه وأثنت عليه بطريقتها الخاصة، كيف لا وهي “ست اللهيج السكري” و “ست الفرقان”، فكانت لا تخلو كلماته من وصف البنية أم زوما وأم كحيل، والتعبير عن حواء باختلاف مسمياتها، فهي وسط الكلام جملاً تتخلل إبداعاته.

تغنى للوطن فالتف الناس حوله ووصلت رسالته الجميع، وغازل الألحان دوزنة فكان قائد الأسطول لا محالة، وتوأم روح لكل المحبين لفنه وشخصه، ورقم صعب الوصول إليه لكل الفنانين في عصره، ونجم الشباك الأول لأكثر من خمسة وعشرين عاماً، لذلك كان فناناً شاملاً حمل في إنسانيته وفنه رسالة إلى كل الناس باختلاف أعمارهم.

 قيل أن الأساطير لا تظهر للوجود إلا كل مائة عام مرة، ولعلها أخر مرة كانت بظهوره، فعندما دقت ساعة الرحيل أغلق باب الأساطير خلفه وأخذ المفتاح معه ورحل، فالأساطير لا يموتون، فقط يرحلون، ورحل ذلك الفتى الأسمر معلناً معه غياب آخر أساطير الفن الجميل وبعدها “كذب المنجمون ولو صدقوا”.

في أواخر القرن العشرين ظهر في الساحة إنسان إبن بيئته، نحيل الجسم بسيطً في مظهره، متواضع في تعامله، يمتلك من السحر الإبداعي والصوت الغنائي مما حير الشوادي و عجز الوصافون عن وصفه، أسر قلوب الناس بفنه وشخصيته الكريمة والمحبة للآخرين بشكل غير طبيعي، فصنع لنفسه كاريزما أحسب أن لا تتكرر مجدداً، ذلك الفتى يُدعى محمود عبدالعزيز، لقبه المُحبون بكل الألقاب ولم تكن بحجم إبداعه ومكانته، فكان محمود عبدالعزيز فخامة الأسم تكفي…

ولكن ظل “الحوت” أحد أشهر ألقابه، فأخذ جمهوره ومحبيه الأسم منه فصاروا “الحواتة”، وهم أناس يحملون من الوفاء والعرفان الكثير، فهو من علمهم الحب والوفاء لذلك تسيد القلوب والمسارح وطار بأجنحة الإبداع فناً وألقاً، فعانق أفئدة المحبين من الملايين العاشقين، فأصبحوا الحواتة القيافة، وكانت وما زالت بين الحوت والحواتة قصة عشق لم ولن تنتهي.

في كل عام تأتي ذكرى رحيل الحوت كواحدة من المناسبات التي ينتظرها الحواتة على شغف، ورغم الظروف التي تمر بها البلاد في السنوات الاخيرة إلا أن العشاق لا ينسون ذكرى الرحيل، ودائماً ما يقومون بكافة الترتيبات التي من شأنها توثق ذكرى رحيل محبوبهم في كل عام، رغم أنه يظل حاضراً في الوجدان طِوال العام، فهو ملاذاً للقلوب وحضور طاغي برغم الغياب، (عشاقك فاقدنك يا عشق والذكرى بتفضل أبدية).

محمود ذو الصوت الجميل والطروب، أحب الوطن فأحبه كل من في الوطن، والحضور الدائم للحواتة وتهافت القنوات المرئية والمسموعة لتسجيل البرامج والحلقات عن ذكراه السنوية، وإقامتهم لهذه المناسبة تخليداً لكل الذكريات الجميلة باختلاف تفاصيلها شئ فريد من نوعه وغير مسبوق في مجتمعنا، وذلك يؤكد كل يوم أسطورة ذاك الجميل المدلل، و تربعه على عرش الأغنية السودانية وإمتلاكه لقلوب المحبين حتى بعد رحيله.

ورقة أخيرة

مرت ثمانية أعوام على الرحيل المُر، وما زال الحوت الزول الطيب الذي رسم الأحلام في الخاطر عنوان للريدة الابدية بينه وبين مُحبيه، وأيضاً لا زال الحوت هو “البحر البشيل عوامو” لمن يفكر في الاقتراب من مملكته ومحاولة هز عرشه في غيابه، ولا زال يثير الجدل حتى بعد أن سكت الرباب وصمت الشوق بعد الغياب، لذلك يبقى محمود عبدالعزيز هو الفرح الذي يحاصر الذاكرة دائماً بلا نسيان.

Related posts

السودان ما بعد الإتفاق الإطاري

حوار الطرشان

الصحافة مسؤولية .. وليست جريمة

2 تعليقات

abdrhman 2021-01-23 - 9:34 مساءً
الحوت وكفى.... الحوت عالم جميل
Ibrahim 2021-01-23 - 9:29 مساءً
محمود له الرحمة كان اكبر من مجرد فنان
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...