ذاكرة القلب

يحكى أنه عندما فقد غابريل ماركيز الذاكرة في آخر أيامه قال لصديقه عندما جلس بجانبه : “أنا لا أعرفك ولكني أعرف أنني أحبك”.
الذين نحبهم تعرفهم قلوبنا قبل أن نتبين من ملامح أوجههم، لا نحتاج أن نطالعهم، هناك بوصلة تقود الشعور نحوهم، تعرفهم أنت بقلبك الذي يخفق، بأياديك التي ترتجف، بذاك الذي يعتمل في صدرك و لا تدري ماهيته؛ شئ غير عادي يحدث.
هناك النبي يعقوب عليه السلام حين هتف ”إني لأجد ريح يوسف“ لمجرد أن ألقوا على وجهه قميص يوسف عليه السلام فارتد بصيراً، القلب أبصر من العين، لا يحتاج لتعاريف و مقدمات، و لكنه يقود للتهلكة في كثيرٍ من الأحيان…
و بين الذكرى و النسيان، تتلاشى الكثير من الصور، تمتد علاقات و توطد أواصر، مشاهدٌ تَبقى و آخرى تُزاح ”بين الذكرى و النسيان مسافة قريبة يا إنسان“ أو كما قال الشاعر السوداني التجاني حاج موسى، كثيراً ما تخون الذاكرة فتعمل عكس القلب، تُنسيك ما أردته تذكره، و تُذِكرك ما أردت نسيانه، الأمر لا يتعلق بما تريد، و لكن بما يريد القلب و الذاكرة، يقال أن لأعضاء الإنسان ذاكرة، و للقلب ذاكرة غير كل الأعضاء، و ذاكرة القلب أبقى وأقوى…
هناك الكثير من القصص التي تُروى عن أشخاص زُرِع لهم قلب فتصرفوا كما كان يتصرف صاحب ذلك القلب، أو أحبوا أشياء كانوا في الأصل لا يحبونها…
نسيت…
تلك الكلمة التي يقولها لك أحدهم إذا أراد أن يهرب من وعده، إذا أرادك أن لا تغضب قال لك  نسيت، يا عزيزي الأشياء المهمة لا تُنسى…
فأنت لا تنسى موعدك مع الذين تحبهم…
لا تنسى مقابلة عمل تنتظرها…
نحن الذين نُصنِف الأشياء التي نريد أن نتذكرها…
و التي لا نريد تذكرها بصورة لا إرادية حسب أهميتها لدينا…
في رواية ما تخبئه لنا النجوم للكاتب جون غرين، بطل الرواية (أغسطس واترز) كان لديه هاجس أن يُنسى بعد موته، كان هذا أكثر شيء يخافه، كان يريد الخلود لنفسه، يحب أن يبقى حتى بعد موته، هذه الصفة التي صبغها الكاتب على بطل القصة لم تمر عليّ مروراً عابراً، لم تغادرني دون الكثيرين؛ ربما الكاتب ذاته كان لديه ذات الهاجس، فسقط منه شيء في أحرفه تلك؛ فرأي أن يلصقها بتلك الشخصية الوهمية…
المهم في الأمر أننا وإن كنا مغلوب علي أمرنا في قضية التذكر و النسيان، إلا أننا في غالب الأحيان نحن مَن يحدد ما نريد أن نتذكر وما نريد تذكره، الأمر يتعلق بإرتباطك بالأشياء، أن تمنحها تأشيرة الدخول للقلب، فتدون في (ذاكرة القلب) فيُكتب لها البقاء و إن غشي القلب بعض الرهق..

Related posts

السودان ما بعد الإتفاق الإطاري

حوار الطرشان

الصحافة مسؤولية .. وليست جريمة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...