إهمال الحضارة المروية
تمهيد :-
بنظرة شمولية واضحة، وبقلم فاحص يتعقب الأسرار والحقائق .. نأخذكم في رحلة عبر الزمان والمكان لنروي لكم عن أحداث وجرائم في تاريخ السودان إبتداءً من الحقب القديمة والعصور الوسيطة وما بعدها وصولاً إلى أحداث وجرائم الألفية الثانية؛ تتضمن جرائم التاريخ بأنواعها سواء أكانت اجتماعية أم ثقافية وحتى سياسية، وعلى كل حال كان لابد لنا نتطرق لمفهوم الجريمة بحد ذاته وتبين لنا بعد كل التعريفات الواردة عن مصطلح الجريمة أننا نستطيع أن نجملها في جملة واحدة :
” أنه عمل ينافي الفطرة الإنسانية السليمة بموجبه اقتضت العقوبات”. وهنا لانقصد أن الجريمة هي كل حدث استُبيحت فيه الدماء فقط ؛ بل هنالك جرائم كانت بنفس البشاعة والفظاعة لم ترق فيها نقطة دم واحدة ولكن كان أثرها على المدى البعيد قد رسم ملامح مأساوية في التاريخ.. وفي هذه السلسلة سنتحدث عن كل هذه الجرائم بالتفصيل سنستصحب معنا الشواهد والأدلة والبراهين حتى تتضح لنا الرؤية جيداً .
ألغاز ما بعد سقوط مروي :-
في البدء وقبل الحديث عن الحقبة التي تلت سقوط مروي وذلك الغموض الذي ساد تلك الفترة؛ مما أحدث فجوة في التاريخ كان لابد لنا أن نقول أن التجاهل والإهمال لتلك الفترة يعتبر جريمة في حق التاريخ بيد أن مضمون ذلك التراجع والإهمال والتغيب كان له عدة أسباب سنتطرق إليها بالتفصيل لنتابع..
نبذة عن حضارة مروي العظمى :-
وفي الحديث عن حضارة مروي وتاريخها فبالتأكيد كلمات ما بين السطور لن توافيها حقها، فحضارة مروي ظلت في فترة من الزمان إحدى القوة الأساسية في التاريخ العالمي عندما وصلت لصناعة الحديد ومما يطغي عليها طابع العظمة أن قواعد التاريخ تقول (أن الحضارات والأمة الناشئة لا تنشأ في البوادي) وخير دليل وشاهد على ذلك ما خلفته مروي من آثار وأهرامات – فلا مباني بلا معاني- تلك المملكة الفرعونية التي يرجع تأسيسها إلى ما بعد الآسرة الخامسة والعشرين وتحديدا للقرن الثالث قبل الميلاد قد شهدت المملكة المروية نهضة حضارية عظيمة ، وخاصة في القرن الأول للميلاد، أي بعد أفول حضارة نباتا بفترة طويلة وبعد انتقال مراكز القوة والثراء في كوش إلى الجنوب.
فذلك الإرث الحضاري المتين والثراء العريض نتج عنه إمكانات اقتصادية وعسكرية؛ و بالتعقيب على جوهر حضارة مروي نجد أنها حضارة وطنية محلية خالصة، وخالية تماماً من أي مؤثرات مصرية، علاوة على أن تلك الحضارة كانت تحتضن جُل معاني التطور الثقافي والاجتماعي والإزدهار الحضاري عندما وصلت مروي في إثراء الحضارة الإنسانية في صناعة وصهر الحديد بطريقة علمية، وتطوير الكتابة الهيروغليفية ذات الرسومات أو المقاطع الهجائية المعقدة إلى أبجدية سهلة لكتابة اللغة المروية ذاتها. ولكن هذه اللغة المروية لم يفلح العلماء في فك رموزها وطلاسمها إلى يومنا هذا .. ويبقى السؤال هنا؟ كيف انهارت تلك الحضارة وماهي أسباب سقوطها ولماذا كل هذا الغموض حولها؟
من القواعد المسلم بها في أي حضارة، أن لكل حضارة نهاية مهما تماسكت وحاولت الإحتفاظ ببنيتها الحضارية ستؤول إلى التلاشي في يوم من الأيام.. سواء كان بفعل عوامل خارجية أو داخلية أو حتى كليهما معا ولكن سقوط حضارة مروي التي تعتبر آخر منارة كوشية ظل لغزا محيراً لعلماء التاريخ والآثار لذلك تعددت فرضيات السقوط وكثرتها تمثلت في :
-تعرضت المملكة إلى الضعف الكامل والتفكك في أواخر العهد المتبع، وكانت هناك العديد من العوامل التي نتج عنها سقوطها والتي تتمثل في العوامل البيئية، التي تدهورت بنسبة كبيرة مما قد كان السبب فيها هو زيادة النفايات الصناعية ، الناتجة عن صناعة الحديد في البيئة والتي نتج عنها تلوثها وحدوث الخلل بها. ولعل فقدان الطاقة يعتبر إحدى العوامل الرئيسية في تدهور تلك الحضارة.
– زيادة معدل القبائل البدوية في الصحراء والعمل على السيطرة على القوافل التجارية كان عامل من عوامل الخلل الاقتصادي.
– أيضا ظهور مملكة اكسوم الحبشية وقيامها بمنافسة مملكة مروي بشكل قوي، والتي قامت بالسيطرة على التجارات الأفريقية، التي كانت تدخل المملكة من خلال مرورها عبر شرق أفريقيا والبحر الأحمر.
– قيام عيزانا(ملك مملكة أكسوم) بتدمير كل ما تبقى في المملكة كان السبب في السقوط ، في عام ٣٥٠ م.
-التحول من الديانة الوثنية إلى الديانة المسيحية كان له أثره في إهمال أشكال الثقافة المرتبطة بالحضارة المروية.
(إذا جفت منابع التطور انهارت الأمم) هذه المقولة تنطبق على أسباب سقوط مروي التي وردناها فقد امتزجت العوامل الداخلية والخارجية مما أدى إلى ضعف وتفكك هذه الحضارة.. ولكن قد يتبين لقارئ التاريخ أن هذه الأسباب ليست مقنعة بالشكل الكافي، بمعنى أنه ما زال هنالك الكثير من الأسرار التي لم يتم الكشف عنها عن تلك الحضارة.
مجمل الحديث وخلاصته نريد أن نشير إلى أن هنالك تهميش علمي لهذه الحضارة يسوده التكتم والغموض والاخفاء والطمس لحضارة كانت ليس لها مثيل في ذلك الوقت؛ وبالتأكيد هذا الاخفاء له أبعاد سياسية واجتماعية وغيره وفي النهاية يعتبر جريمة في حق التاريخ.
عصف ذهني من منظور تاريخي حول تلك الفترة :-
ونقصد بتلك الفترة، تلك الفترة التي تلت سقوط مروي وما جابها من غموض لحين قيام الممالك المسيحية فذلك العصف الذهني من منظور تاريخي وجغرافي لتلك الرقعة والفترة نستطيع من خلاله معرفة أن بعد سقوط مروي وانهيار حضارتها وذلك الضعف الذي دب في أوصالها استطاعت بعدها في القرن السادس الميلادي أن تقوم ثلاث ممالك نوبية (نوباتيا، والمقرة، وعلوة) معلنةً عن تفجر نهضة ثقافية وسياسة لم يسبق لها مثيل، وعندما جاءت المسيحية صبغت تلك الآثار المتبقية بصبغتها خاصة في مجال العمارة الدينية، المتمثلة في الكنائس وملحقاتها في فترة مهمة جدا في التاريخ انتهت بخراب سوبا وهذا ما سنعرفه في الجزء القادم.
2 تعليقات