جرائم عبر القرون ج (8)

جرائم عهد الإنقاذ (1)
تحت مسمى “مشروع الحركة الإسلامية” نجح الإسلاميون في الوصول والقفز إلى السلطة بتخطيط -استمر لسنين – وقيادة الحركة الإسلامية وزعيمها حسن الترابي، وكان ذلك عن طريق انقلاب عسكري في عام ١٩٨٩م.. كانت أيدلوجية الترابي في السلطة تتمحور حول تمكن الإسلام فيها وإشاعة وبسط سياساتهم الخبيثة في حياة العامة فتوشحوا بعباءة الإسلام وأنهم حماة الدين و أوصياء عليه.. مكث عهد الإنقاذ في البلاد ٣٠ عاما، عان فيها الشعب أفظع أنواع الجرائم بشقيها (دموية، وثقافية) وكما ذكرنا مسبقاً أن هذه السلسلة ستطرق إلى أنواع الجرائم المخفية والبارزة؛ وفي هذا الجزء سنوضح لكم جريمة من جرائم العهد البائد المستترة وسنسلط الضوء عليها بوضوح فيما يلي..

رئيس الصدفة الذي جاء به الترابي:
يقين الترابي وإيمانه بمشروعه الإسلامي الذي أملى عليه أنه لامكان للإسلام في حياة الناس لا يتحقق إلا عن طريق سلطة حاكمة يتسنى لها أن تمارس وتنفذ قراراتها وتفرضها على الجميع.. فأتى الترابي بالبشير، كان البشير حينها قائداً للواء الثامن مشاة، وفي الثلاثين من يونيو أعلن نفسه رئيساً للجمهورية.

وقد نُفّذ هذا الانقلاب وسط ظروف اقتصادية متهالكة وحروب أهلية في الجنوب، حينها جرت الأمور كما خطط لها الترابي الذي حاك أخبث مؤامرة في تاريخ السودان الحديث، رويداً رويدا بدأ الترابي الظهور في العلن كركن أساسي من أركان السلطة، وكشف المستور أمام العامة.. فتبين للشعب حقيقة الأمر بعد أن خُدِعوا وظنوا أنه انقلاب عسكري بحت، واستدلوا بذلك بسبب زج البشير للترابي في السجن ولكنها كانت أُلعوبة من قبل الجبهة الإسلامية .. وبعد هذا صرح البشير بنفسه :

أن ثورة الإنقاذ الوطني لاتعرف الفصل بين الدين والسياسة، والموضوع غير قابل للنقاش.

ماذا حدث بعد ذلك؟
طيلة فترة حكهم في البلاد كانوا يتعمدون وبشكل خبيث محاربة الثقافات القومية والحضارية وطمس الهويات، من أجل إشاعة مشروعهم القومي وتنفيذ عملياتهم ولاسيما بعد ضمانهم الاستقرار في الحكم وليستحوذوا على جوهر السلطة ويتحكموا في الناس (افعلوا كذا، اعملوا كذا.. هذا صواب، هذا خطأ.. ولكونهم لا لدنيا قد عملوا ) وأخذوا الدين رهينة وحكراً عليهم ووحدهم حماةٌ له.. كانت أحلامهم السلطة والاستيلاء على كل شيء، وبأي طريقة كانت “فالغاية تبرر الوسيلة يا سادة” .

طمس الهوية النوبية عن طريق التعريب :
بإقرار واعتراف مروع ومأساوي، من قبل الترابي حين ذكر بلسانه :

نشر اللغة العربية لم تفعلها الدولة.. نشرتها الحركة، أي لا في الجنوب والغرب، في شمال السودان أيضا..عند أقصى الشمال في حدود مصر لم يتكلموا العربية بل “النوبية” عامة الناس..
كان هذا بتصريح الترابي في برنامج شاهد على العصر ج(١١) .

معنى هذا الكلام أنهم كانوا في بداية حكمهم عملوا على شن حروب باردة عن طريق محو الحضارات والثقافات الفكرية وبالتحديد في شمال السودان، بحجة تعريبها وأن تلك المنطقة مرتبطة بحضارات قديمة- غير إسلامية – فلابد من مسح أي أثر (لغة، هوية، ثقافة..) كان ذو صلة بالفترات المسيحية قديماً وأن مشروعهم الإسلامي بطريقة أو بأخرى لابد أن ينفذ ويُبسط على كل المناطق في البلاد.. فلك أن تتخيل عزيزي القاريء أن اللغة النوبية التي كانت اللغة الرسمية في البلاد ومن أعرق اللغات في أفريقيا (تَحدُّثاً وكتابة) كان من الممكن أن تتدثر! بسبب تعريب المنطقة من أجل سياسات الإنقاذ الضالة!! وفي اعتراف الترابي بنفسه يبرر ما فعلته حكومته عن طريق التعريب كالفعل الحسن والجيد، وأنه فخور بذلك وبهذا الإنجاز!

هل نجحت الحركة الإسلامية في تعريب بلاد النوبة؟
حسن الترابي :
اجتهدت الحركة اجتهادا شديداً في تعريب المناطق ولا سيما في شمال السودان.

من الواضح أن اجتهاداتهم قد باءت بالفشل، ورغم دقتهم وذكائهم الخبيث إلا أن الحظ لم يحالفهم في الوصول إلى ما يريدون إليه؛ فقد ذكرت بعض المصادر أن في السنين الأخيرة قد كثر الإقبال على اللغة النوبية والاعتناء بها على الجانب الشعبي والرسمي، وخير برهان ودليل على ذلك ما نراه اليوم من مبادرات لتنمية التراث والثقافة النوبية والعمل على إحياء إرث الأجداد حتى لا يُمحَى وغيرها من المنظمات الساعية لإنعاش الحضارة النوبية وهويتها الأصيلة.
مقتطفات وتعقيبات:
ذكرنا في الجزء السابق أن التهجير هو وسيلة من وسائل فصل التاريخ عن الجغرافيا ليس عن طريق تهجير المواطنين الأصل من منطقة لأخرى فحسب ؛ بل قد يكون عن طريق إدخال أعراف جديدة وثقافات جديدة وبلغة أخرى إلى هؤلاء السكان الأصل.. فالجريمة الكامنة هنا تكمن في فقد الإنسان للغته الأم ولغة آباءه وأجداده بمثابة طمس لهويته الحضارية والأصلية.. فبعد مضي عقود على تهجير النوبيين من وادي حلفا وضياع ملامح بلاد النوبة في بحيرة السد إلا أن الشعب النوبي يأبى أن تضيع أو تغرق ثقافته تحت المياه كضياع ما مضى، ولأجل ذلك ما زالوا محافظين على حضارتهم من الإندثار.
كان هذا الجزء نموذجاً لبعض جرائم الإنقاذ التي تمس القوميات والثقافات والهويات، وفي الجزء القادم سنتطرق لجرائم الإنقاذ الدموية.. يتبع.

Related posts

إشكالية إدارة التنوع الثقافي في السودان

الديمقراطية للديمقراطيين

جرائم عبر القرون ج (10)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...