مجزرة القيادة العامة
قال تعالى :”..أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا {المائدة:32}”.
في هذا الجزء الخاتم لسلسلة جرائم عبر القرون والذي كان لابد أن نتطرق فيه إلى أفظع الجرائم التي تحمل في طياتها ذكرى مريرة على الوطن وعلى أبناءه.. فبعد مرور ما يقارب الستة أشهر على اندلاع الثورة السودانية وبعد سقوط طاغية مكث على عرش السلطة ٣٠ عاماً، حدث ما لا يحمد عقباه ، حدثٌ جسد معاني الغدر ومعاني التشظي السياسي الخبيث في بلد كاد أن يرى النور بعد العتمة.
: Flash back
احتجاج ثم انتفاضة ثم ثورة.. فإرهاصات ثورة ديسمبر كانت تلوح بالنصر منذ تفجرها في التاسع عشر من ديسمبر ورغم أن عملية اقتلاع الجذور دائماً ما تكون صعبة للغاية كان هذا مآل المشهد في ما شهدناه من سقوط جرحى وأسر معتقلين وفقدان شهداء سطروا بدمائهم معنى “الموت من أجل الأوطان”.
من قاد الثورة؟
سيتبادر إلى ذهنك فورا عزيزي القارئ أن الإجابة هي “تجمع المهنيين” أو “قوى الحرية والتغيير” ولكن دائما ما يخفى علينا أن الثورات تقودها الشعوب وليست الكيانات والتجمعات وما هي إلا أداة فقط تنظم شكل الاحتجاجات وشكل المواكب، فإرادة التغيير من حال إلى حال أفضل ولدت من رحم الشعب وليست من بعض أحزاب تريد التغيير فقط من أجل التكالب على السلطة.
مليونية ٦/أبريل والاعتصام :
انتقلت الثورة في هذه المرحلة إلى مرحلة جديدة لكي توطد دعائم القرار السليم القاضي بسقوط البشير، ولكن دعونا نمكث قليلاً هنا بين ثنايا السرديات منذ السادس من أبريل وحتى الثلاثين من يونيو وما الذي حدث في هذه الأيام؟..
فأمام مبنى القيادة العامة أراد الثوار إيصال معاني عديدة أهمها رفضهم لحكم العسكر مرة أخرى، وثانيها حين ارتمى الشعب بكامل ثقته للجيش طالبا الانحياز إلى الثورة ، وبالفعل حدث هذا والأمثال كثيرة.. سقط البشير وتحقق شعار “تسقط بس” وفي رأيي هو الشعار الوحيد الذي تحقق منذ بداية الثورة، ثم جاء بعده ابن عوف وتخلى عن منصبه بعد 30 ساعة من إعلان سقوط البشير، ثم عبدالفتاح البرهان ولكن هم نفسهم وجوه المؤتمر الوطني التى كانت خلف البشير تسانده في أعماله.. وبعد السقوط لم يبرح الثوار مكانهم بل ازدادت الحشود ولكن دعونا نستصحب بعض الزلَّات والهفوات التي وقع فيها الثوار حين مكوثهم في القيادة :
– الثقة بالأحزاب والانسياق وراء الشعارات الزائفة.
– الثقة بالمجلس العسكري و التفاوض معه.
ولكن هذه الغفلات لا تعني الاجحاف في حق الشباب والشياب الذين كانوا في أرض الاعتصام ولقد كانت هناك إيجابيات كثيرة جدا أقلّها وُجدت في كمية الوعي السياسي الذي احتضن الموقف وبرهن قوة الشعب الصامد.
الثالث من يونيو اليوم الفاجع :
في ساعات الليل المتأخرة قبل هذا اليوم وكما أفاد بعض الشهود أن مجموعات كبيرة جدا من سيارات القوات النظامية مددجة بالأسلحة بدأت تحيط بأرض الاعتصام من كل الجهات، في حركة مريبة وغير مسبوقة حينها تداولت الأقاويل والأسافير عن أن هنالك محاولة لفض الاعتصام ويجب على الجميع التحرك نحو القيادة لمنعها؛ وفي تمام الساعة الخامسة صباحا بدأ الرصاص ينهال على الثوار فلك أن تتخيل عزيزي القاريء حالة الهلع والفزع التي عمت المكان وكمية العنف الذي استخدم تجاه مواطنين عزل!! ناهيك عن عمليات الاعتقال و رمي الجثث في النيل لإخفاء الجريمة وحالات الاغتصاب التي جابت المكان..
من الذي فض اعتصام القيادة العامة؟!
صرح المتحدث باسم المجلس العسكري الفريق أول شمس الدين الكباشي أنهم : ” اتفقوا كقيادات عسكرية وتنطيمات شرطية وأمنية على تطهير منطقة كولومبيا” ، ومنطقة كولومبيا منطقة هامشية تقع بالقرب من النيل الأزرق على بعد أمتار من ميدان الاعتصام قيل عنها أنها منطقة تعج بالفساد وبؤرة جاذبة للباحثين عن الخمور والمخدرات.. لهذا أصدر المجلس العسكري ومن معهم قراراً بتطهير هذا المكان.
ولكن الشيء الذي يتجعب له المرء أن منطقة كولومبيا كما روى بعض الناس أن هذه المنطقة ليس لها علاقة زمانية أو مكانية بالاعتصام وهي موجودة قبل الاعتصام بفترة طويلة، يبقى السؤال لماذا تم التعامل معها في هذا التوقيت، وإذا افترضنا أنهم بالفعل يودون تطهير هذه المنطقة “كولومبيا” فقط هل كانت هذه السيارات العسكرية “والتاتشرات” الكثيفة بالفعل تستحق كل هذا العنف تجاه منطقة صغيرة؟ وهل أصبح التعامل مع متعاطي الكحول والمخدرات بهذه القوة الأمنية الكبيرة هو العقاب الأوحد؟!.
مصيرُ القاتل :
قرابة ال 130 شهيد وكمٌ مقدر من الجرحى لا يستهان به وعمليات اغتصاب طالت الجنسين علاوة على من تم إلقائهم في النيل.. كل هذا والقاتل حر طليق، والعديد من الاتهامات وجهت للدعم السريع وقائدها الذي قيل أنه أعطى الأوامر بفض الاعتصام ولكن كما رأينا جميعا أن القوات المسلحة التي كانت تقوم بالفض ترتدي أزياء من مختلف الأجهزة الامنية مثل الشرطة والدعم السريع وجهاز الأمن ومكافحة الشعب، كانوا خليطا من أعداد كبيرة جدا وتحمل أسلحة كثيفة لا يمكنها القيام بهذا الأمر من غير توجيه قيادات كبرى موجودة على السلطة.
خواتيم الحكاية:
فإن مات الاعتصام وأُخمد فإن روح ثورة ديسمبر لم تمت.. وما حدث من أفعال وحشية ودموية في أرض الاعتصام يذكرنا بمذابح دارفور ٢٠٠٣، فقد انتشر “الذين يسعون في الأرض فسادا”، فمن يشعل الحرب لا يمكنه أن يصنع السلام.
وبعد مرور عامين وأكثر على مجزرة القيادة اتضحت لنا الحقيقة جليةً وأنه لايمكن التعويل والثقة على أي مكون سياسي كان في السلطة فقد كتبت دروس التاريخ لأخذ الموعظة علّنا نفهم؛ وكانت هناك تساؤلات حول القوى السياسية المدنية هل كانت تعلم بفض الاعتصام!؟ أعتقد أنها كانت تعلم جيدا بدليل أن هنالك حزب انتشل ولملم خيمته على عجلة قبل حدوث المجزرة بساعات فبالتعقيب على جوهر الموضوع نرى من سياق الأحداث أن معظم القوى السياسية إن لم تكن على علم كامل بفض الاعتصام كانت على الأقل تستشعر بخطر فض الاعتصام ولكن ما حدث هو أن الدماء البريئة سالت بكثرة وحتى الآن لم يتم محاسبة الفاعل وكيف تتم المحاسبة والفاعل على رأس السلطة..