بقلم : أسامة فقير
مما لاشك فيه أن الواقع السياسي والاجتماعي في السودان بعد ثورة ديسمبر المجيدة أكثر تعقيداً من ما كان عليه بعد ثورتي أكتوبر وابريل، والواقع معقد اليوم بفعل ممارسات سلطة نظام الانقاذ البائد الذي جثم على صدر البلاد لثلاثة عقود، سيطر فيها حزب المؤتمر الوطني على الحياة السياسية مُقصياً جميع الأحزاب السياسية من حقها في ممارسة العمل السياسي والاتصال بالجماهير، بل وزاد على ذلك في توظيف إمكانيات الدولة المالية والأمنية في تقسيم الأحزاب السياسية واضعافها، فقد كان لسيطرة حزب المؤتمر الوطني على الحياة السياسية آثار يصعب معالجتها على المدى القريب، فقد صعد الانتماء القبلي بشكل مخيف حتى أصبح يمثل هوية سياسية للفرد دون منازع، فالصراع القبلي كان مستعراً داخل حزب المؤتمر الوطني بين منسوبيه سواء في الانتخابات التي كان ينافس فيها الحزب نفسه أو في الصراع على الظفر بالوظائف العليا والمتوسطة في الدولة.الآن بفضل شهداء ثورة ديسمبر المجيدة وبفضل النضال الطويل لثوار و كنداكات ديسمبر ٢٠١٨م وسبتمبر/ ٢٠١٣م بدأت الدماء تضخ من جديد في أوصال الحياة السياسية بمختلف مكوناتها من الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، و ارتفع الوعي السياسي في الأوساط الشعبية لكثير من الشرائح التي لم تكن تولي للسياسة اهتمام في حياتها، وذلك عبر النقاشات اليومية عبر الوسائط ووسائل التواصل الاجتماعي، وانفتاح الحريات العامة وحرية التنظيم والعمل السياسي، هذا الوعي المتنامي وعودة النقاشات الفكرية للتعرف على الأحزاب وبرامجها والخيارات الامثل لنظام الحكم والدستور والبحث عن الأخطاء التاريخية في تاريخ السودان الحديث لتلافيها ومعالجتها والنقاش حول طبيعة الدولة وعلاقة الدين بالدولة، جميع تلك النقاشات كما أسلفت كانت محصورة على النخبة السياسية والمثقفين والآن أصبحت تأخذ طابع أوسع مما يساعد في تجاوز خانة التخندق القبلي إلى تناول القضايا من منظور قومي، لكن يظل الهاجس الذي يؤرق مضجع جميع مكونات الحكم الانتقالي وقوي الثورة هي الضائقة الاقتصادية التي يزداد خناقها على المواطن.
في الانظمة الديمقراطية الثلاثة التي قامت في تاريخ السودان الحديث اي بعد نيله الاستقلال نجد أن النخبة السياسية فضلت النظام الديمقراطي البرلماني وهذا ربما يعود لتاثر الرعيل الاول للاستقلال بالنظام البريطاني البرلماني، ومما لاشك فيه أن أكثر الانظمة الديمقراطية التي تضمن مشاركة اوسع للطيف السياسي في اتخاذ القرار هو النظام البرلماني، وكذلك يضمن تمثل أوسع للقوى المجتمعية من أحزاب وطوائف ومنظمات مجتمع مدني والمستقلين في الائتلاف الحاكم عبر التحالفات داخل البرلمان، لكن تجربة الديمقراطية الأولي والثانية والثالثة في السودان تتطلب إعادة النظر في مسالة خيار النظام البرلماني، فمن الأسباب الرئيسية لسقوط تلك التجارب الثلاثة هي التشاكس بين الاحزاب المؤتلفة والمعارضة داخل البرلمان، والذي أضاع وقتا ثميناً كان ينبغي أن يستغل للتنمية ومخاطبة أزمات البلد المترامي الاطراف، مما أفقد الكثير من السند الشعبي للتعددية السياسية والتهيؤ لقبول الأنظمة الشمولية وحكم العسكر ساعد علي ذلك اضافة إلى الأحزاب الثلاثة (الشيوعي والبعث والحركة الاسلامية) في الاستفراد بالسلطة وتنفيذ ما تؤمن به من أفكار ترى أنها تنقذ البلاد من أزماتها، وكما رأينا و رأي الجميع الفشل الذريع لتلك الأنظمة بل والتدمير والتخريب الذي الحقته بالبلاد كما اسلفت لم يساعد اختيار النظام البرلماني في تثبيت تجاربنا الديمقراطية السابقة، لذا فإنه قد آن الأوان للبحث عن نظام آخر اكثر فاعلية، واعتقد أن النظام الديمقراطي الرئاسي ربما يساعد على تقديم نموذج مختلف في نظام ديمقراطي قادر علي احداث تنمية وازدهار في البلاد، مع الحفاظ على مكتسبات الحريات العامة والدور المهم للبرلمان في الرقابة علي أداء السلطة التنفيذية دون أن يكون له دور في تشكيل الحكومة، وكذلك مشاركة البرلمان في القرارات الكبري والمصيرية داخلياً وخارجياً، لكن بلا شك هنالك تحديات كبيرة ستواجه نجاح نموذج النظام الديمقراطي الرئاسي، منها التنوع الكبير في البلاد قبلياً وجهوياً والتي تسعي جميعها لأن تكون فاعلة سياسياً ولها تمثيل علي مستوى قيادة الدولة لا سيماً الحركات المسلحة التي ستنضم الى الحكومة الانتقالية بموجب اتفاقية السلام.
يبقى التحدي في التوافق على شخصية توافقية تستطيع أن توفق فسيفساء المكونات السودانية المجتمعية والسياسية ومختلف الاتجاهات الفكرية ليكون مرشح رئاسي واحد بعد انتهاء الفترة الانتقالية، على أن تكون رئاسته لدورة واحدة بعدها تتنافس الأحزاب بمرشحيها الرئاسيين، وأعتقد أن د. عبد الله حمدوك قد أبلى بلاء حسناً في التوفيق ما بين الحاضنة السياسية والمكون العسكري والجبهة الثورية في المرحلة السابقة ونتمنى أن يستمر على ذات المنوال حتى نهاية الفترة الانتقالية وبلوغ الانتخابات العامة بإذن الله.
Copyright secured by Digiprove © 2020 Ashraf Eltom