تعتبر العبودية والرق جزء معقد ومؤلم من التراث الثقافي والإجتماعي في السودان، وقد تأثر بالعديد من العوامل السياسية والاقتصادية والدينية، و تعود جذور العبودية و الإسترقاق في السودان إلى عهد مملكة كوش (2500 ق م) حيث كانت هناك أنظمة اجتماعية و إقتصادية تعتمد على الإستعباد و خصوصا أسرى الحروب الذين تم إستخدامهم كعمال في الزراعة و البناء، و وصولاً إلى الممالك النوبية مثل المقرة و نوباتيا و علوة نجد أن الرقيق كانوا جزء أساسي في تلك المجتمعات، فنجد معاهدة البقط و التي تم توقيعها بين مملكة المقرة النوبية والدولة الإسلامية في خلافة عثمان بن عفان بعد فتح جيش المسلمين لمصر ينص أحد بنودها على تقدم المقرة 360 عبدًا سنويًا مما يحصلون عليه من الممالك المجاورة إلى والي مصر، على أن يكون هؤلاء العبيد صحيحي الأبدان ليسوا من العجائز أو الأطفال، ويكونوا خليطًا من الذكور والإناث، يضاف عليهم 40 عبدًا توزع على وجهاء ولاية مصر، و استمرت نحو سبعمائة سنة، لذا تعتبر من أطول المعاهدات في التاريخ، و قد شكل العبيد المرسلين من النوبة العمود الفقري للجيش الفاطمي لاحقاً.
تجارة الرق في عهد الممالك الإسلامية في السودان:
بعد سقوط الممالك النوبية عام 1504، غزا العثمانيون معظم النوبة، بينما غزا الفونج معظم السودان الحديث من دارفور إلى الخرطوم، ومع دخول الإسلام إلى السودان في القرن السابع الميلادي، تغييرت بعض جوانب العبودية، فكان للعبيد دور في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتم إدخال مفاهيم جديدة حول حقوق العبيد، ومع ذلك استمرت تجارة الرقيق في الانتشار، وفي العصور الوسطى ومع ظهور الممالك الإسلامية، استمر استخدام العبيد في الحياة اليومية، وكانت المتاجرة بهم جزءًا من الاقتصاد، حيث يتم نقل العبيد عبر طرق التجارة إلى مناطق أخرى، و تاريخياً تعتبر مصر احد اكبر و اهم الأسواق التي يتم تصدير الرقيق اليها من السودان بالإضافة الى الجزيرة العربية وشمال افريقيا. و نجد أن تجارة الرق كانت منتشرة في كل من ملكة الفونج ودارفور، كان الرق مصدر رئيسي للإقتصاد في مملكتي الفور بغرب السودان والفونج في جنوب شرق السودان، و كانوا يشنون حملات حربية مخصوصة لإسترقاق الشعوب المجاورة لهم مثل الحزام الأفريقي في شرق وغرب وجنوب دارفور ومناطق جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وجنوب السودان، وكان أقسى أنواع الرق تمارس في سلطنة دارفور حيث كان يتم استرقاق الأطفال ويتم خصيهم و تعيينهم كعساكر في بيت السلطان، و يُذكر أن الخصيان كانوا مكرمون عند الأكابر، فقد كانت لهم سطوة و كلمة نافذة، حتى أن لهم منصبين لا يتولاهما غير الخصيان، و هما منصب الأبوة و منصب الباب، و تعتبر سنار و الأبيض من أكبر الأسواق التي كان يتم فيها تجميع و بيع الرقيق في تلك الفترة.
تجارة الرق في عهد الحكم التركي المصري:
تعتبر فترة الحكم التركي المصري من انشط الفترات في تجارة الرق في السودان، فكما هو معلوم ان محمد علي باشا ارسل حملته للسودان من اجل الذهب و الرجال (او العبيد)، و قد كانت الخرطوم من اكبر اسواق الرق في المنطقة بالإضافة لمدني و الابيض و شندي و بربر، حيث يتم تجميع الرقيق بعد صيدهم من جنوب و غرب السودان و تصديرهم لمصر و تركيا و اوروبا للعمل في الجندية او الزراعة و الأعمال المنزلية، ويعتبر الزبير باشا رحمة من أشهر تجار الرقيق السودانيين خلال تلك الحقبة، و نشطت حملاته بصورة أساسية في مناطق بحر الغزال و أجزاء من دارفور.
وبعد تشريع قوانين تجرم وتمنع العبودية في أغلب دول أوروبا، قامت الحكومة البريطانية بالضغط على خديوي مصر لإلغاء الرق في السودان، فأعلن محمد علي باشا عند زيارته للسودان سنة 1839م إبطال تجارة الرقيق، وبعد تولي إسماعيل باشا حكم مصر سنة 1863م أصدر أوامر مشددة إلى موسى حمدي باشا، المعين من قبله حاكمًا عامًّا على السودان، بتعقب تجار الرقيق وقطع دابرهم، فصادر 70 مركبًا محملة بالرقيق بين كاكا وفشودة، ودعا ملك الشُلك إلى الخرطوم وسلَّمه رقيق بلاده، وسجن التجار، وأفرج عنهم بعد تعهدهم بعدم العودة إلى تجارة الرقيق، وقامت بريطانيا بتعيين غردون باشا وصامويل بيكر و امين باشا كمراقبين في السودان، و من ضمن جهودهم أن قاموا بإرسال الزبير باشا إلى مصر و من ثم نفيه إلى جبل طارق، وعمل غردون على تجفيف جيش الزبير و تعيين معظم قادته في الحكومة، و لكن كل هذه الجهود لم تكن كافيه لإنهاء الرق وقد استمرت بعض الممارسات المتعلقة بها.
العصر الذهبي لتجارة الرق في السودان (الدولة المهدية):
نجد أن الرق في السودان ارتبط بالدولة المهدية بعد ظهورها، حيث نشطت هذه التجارة مرة أخرى و بصورة موسعة، فالدولة المهدية كانت تبيح تجارة الرق و تبرر له دينيا، فقامت بتقنينه و احتكاره و اعتباره مصدر دخل أساسي للدولة، و كان يتم استجلاب الرقيق من حروبهم في دارفور و جبال النوبة و أيضا حملات الصيد المنظمة في إثيوبيا، و قد ذُكر في بعض وثائق المهدية أن الزاكي طمل قام باقتياد آلاف الأثيوبيين في مسيرات طويلة إلى أمدرمان و تم استرقاقهم، و وضع بيت المال بأمدرمان يده على هذه التجارة حيث كان يتم تجميع الرقيق فيه و إصدار وثائق لهم بعد حصرهم، ويتم تحويل كل الرقيق الذكور إلى الخليفة عبدالله التعايشي ليصبحوا (ملازمين) له أي جنودا، وتحويل المتبقي منهم ليعملوا في الأراضي الزراعية التي تتبع للخليفة، فبيت المال كان هو المشرف الرئيسي على هذه التجارة، حيث قام الخليفة بإصدار ضوابط و رقابة على حركة الرقيق و المبايعات، حيث كان بيت المال يقوم بمنح تصاريح لتجار وملاك الرقيق في كل الأقاليم التابعة للدولة المهدية ولا يسمح بامتلاك الرقيق أو المتاجرة فيهم إلا بعد إذن منه. يعتبر البعض ان فترة المهدية هي اسوأ الفترات التي مرت بها تجارة الرق في تاريخ السودان، حيث توسعت بصورة كبيرة لدرجة أن أسعار الرقيق كانت قد هبطت في بعض فترات المهدية بسبب وفرتهم وتكدسهم، وحدث ذلك بعد أن منع الخليفة تصدير الرقيق خارج الدولة كإستراتيجية منه لمحاصرة أعداءه، حيث أن غالبية الرقيق الذين يتم تصديرهم كانوا يعملون بالجندية في مصر وتركيا.
عهد الحكم الثنائي الإنجليزي المصري:
كانت السياسة العامة التي انتهجها الحكم الثنائي يمنع الرق والاسترقاق في السودان، وقد تشكلت ملامح هذه السياسة في لندن والقاهرة كنتيجة أساسية للصراع داخل المجتمع البريطاني بين دعاة تجريم تجارة الرق وإلغاءه وبين المنتفعين منه، وقد أرغمت بريطانيا مصر الخديوية على توقيع معاهدة تنص في مادتها الأولى على أن تتعهد مصر الخديوية على منع الرقيق في مصر ومنع تصديره من القطر المصري.
وبناءً على المعاهدة أصدر كتشنر قائد جيش الإحتلال و أول حاكم عام على السودان يناير – ديسمبر 1899، أصدر مذكرات لمديري المديريات تنص على:
(الرق ليس نظاماً معترفاً به في السودان، ومع ذلك فطالما كان الخادم يقدم خدماته طوعاً للسيد، فما من ضرورة للتدخل في شروط العلاقة القائمة بينهما، وإني لأترك لكم وفقاً لحسن تقديركم حق اختيار أنسب الوسائل للقضاء على عادة الاعتماد على عمل الرقيق، تلك العادة التي نقلت لفترة طويلة جزءاً من تعاليم الدين والأعراف في هذا البلد، والتي يستحيل استئصالها فوراً دون إحداث صدمة قوية لمشاعر أهل البلد الأحرار ورفاهيتهم، ودونما إعلان عن أي هدف للقضاء الفوري على كل أشكال امتلاك الرقيق، هناك الكثير الذي يمكن إنجازه في طريق محاربتها وتعليم الناس الاستغناء عنها).
و قد جوبهت محاولات الحكومة البريطانية لإلغاء الرق في السودان بوقوف الفئات والتجار والمستفيدين منها ضدها، ففي العام 1898م قدم السادة عبد الرحمن المهدى وعلى الميرغنى والشريف يوسف الهندي عريضة إلى اللورد كتشنر مطالبين فيها بالآتي:
” أن هدف تأهيل السواقي والزراعة الضرورية لإعادة بناء البلاد ولا يمكن تحقيقه بدون عمل الرقيق، إذ بدون هذا العمل لن تحقق الرفاهية الى فرد من الأهالي ولن يكون هناك تقدم في السودان يُمكنه من اللحاق ببقية العالم”
وكذلك جاء في ذات العريضة: “من أجل إزالة معاناتنا وتحسين شروط حياتنا، نتقدم لمعاليكم نيابة عن أهالي البلاد، آملين في تفضلكم بوضع الاعتبار اللازم لمطالبنا هذه”
واستمرت مطالبات الزعماء الثلاثة وأعيان القبائل لوقف قرار إلغاء الرق في السودان، ففي مارس 1925م وجه الزعماء الثلاثة مذكرة لحكومة الاستعمار كرد فعل تجاه محاولتها إلغاء الرق، وجاء فيها “كما يعلم سيادتكم جيدا فإن العمل في الوقت الحالي يشكل أهم مشكلة في السودان، ولذلك يجب أن يجد الاهتمام الكافي، فالحكومة والشركات والأفراد وغيرهم من الجهات المهتمة بالزراعة يحتاجون إلى أي شخص قادر على العمل والإسهام في المشاريع الزراعية” و جاء فيها أيضا “أن الحكومة وموظفيها قد لاحظوا خلال الشهور القليلة الماضية أن غالبية الرقيق المحررين قد تحولوا الى أناس غير مفيدين لأي عمل، فقد اتجهت نساؤهم للعمل بالدعارة، أما الرجال فقد أدمنوا شرب الخمر والكسل والبطالة، ولكل هذه الأسباب فإننا نرجوا من الحكومة إعادة النظر في إصدار أوراق الحرية لأشخاص يعتبرونها شهادات تمنحهم حق التحلل من أي مسئوليات تجاه العمل أو الالتزام بما هو واجب عليهم”.
فيديو نادر يجمع الزعماء الثلاثة السيد علي الميرغني و السيد الشريف يوسف الهندي والسيد عبدالرحمن المهدي – لندن 1919م
و ردت الإدارة البريطانية على مذكرة الزعماء الثلاثة بأن كتب السكرتير الإداري في 11 أبريل 1925م إلى السكرتير القضائي ما نصه: “في رأيي أن المذكرة تشير إلى أننا يجب أن نواصل السير بحذر بالغ في معالجة موضوع الرقيق، و عليه أرى أنه سابق لأوانه إصدار إعلان مفاده أن كل شخص حر”.
وفى العام 1924م بمنطقة أبو حمد شمالي السودان، أي قبل عام من مذكرة الزعماء الثلاثة، بعث أعيانها برقية لمدير المديرية ورد فيها “ترك عبيدنا السواقي وذهبوا للمركز، الرجاء تسليمهم أو إلغاء الضرائب لأن زراعتنا توقفت “ ومن ثم هددوا بالهجوم على المركز، فاستجابت الحكومة وعطلت إصدار ورقة الحرية لمدة ثلاثة أشهر.
ويمكننا القول أن الفترة الزمنية من العام 1898م حتى 1924م تعد فترة حرجة لإدارة الحكم الثنائي و جعلتها تضع مسألة الرق في أعلى سلم الأولويات، وكان في القيادة الوطنية لثورة 1924م بشقيها المدني والعسكري أفراد انحدرت أصولهم من سلالة أرقاء.
الرق في العصر الحالي:
ورد أن الموجة الحديثة للعبودية في السودان بدأت في عام 1983 مع اندلاع الحرب الأهلية السودانية الثانية بين الشمال والجنوب، تضمنت أعدادًا كبيرة من السودانيين من المناطق الجنوبية والوسطى، بالأخص الدينكا والنوير والنوبة في وسط السودان، حيث تم أسرهم وبيعهم واستغلالهم بطرق أخرى من قبل السودانيين، وبحسب ما ورد تفاقمت مشكلة العبودية بعد أن استولت الإنقاذ على الحكم في العام 1989، وأعلنت الجهاد ضد المعارضة في الجنوب، كما مُنحت بعض القبائل العربية في دارفور وكردفان الحرية لقتل هذه الجماعات، ونهب ثرواتهم، و استعبادهم، واستيطان أراضيهم بالقوة.
وتوجد عدة تقارير لمنظمات دولية تؤكد على وجود العبودية في السودان المعاصر، فحسب دراسة نفذها مركز الوادي المتصدع بكينيا، فقد تم اختطاف 11 ألف صبى وفتاة من جنوب السودان خلال فترة الحرب في التسعينيات، حيث نُقل العديد منهم إلى ولايات جنوب دارفور وغرب كردفان، وكما أوضحت منظمة التضامن المسيحي بجنيف أنها نجحت في تحرير حوالى 87 ألف شخص من العبودية في السودان على مدى ست سنوات، وأشار مديرها ري فرند هانس أنهم دفعوا مبالغ مالية بلغت 50 ألف جنيه سوداني مقابل الفرد الواحد، وأيضا قدم جيمس جور إفادة وهو أحد الناشطين في حملة تحرير العبيد في السودان و أمضى 20 عاما من حياته عاملا في هذه القضية حيث قال: “أن لديه أسماء وأماكن لعدد 80 ألف شخص يمكن بسهولة تحريرهم من مخيمات الماشية التي يملكها زعماء قبائل عربية، ما أن تتوفر الإرادة السياسية لذلك” وأضاف ” أنه مع حلول السلام اعتقدت أنهم سيحررون الآن”.
ووصفت هيومن رايتس ووتش وآخرون الشكل المعاصر للعبودية في السودان على أنه من عمل الميليشيات القبلية المسلحة و المعروفة حينها (بالمراحيل) المدعومة من الحكومة، و كانت تداهم المدنيين من جماعة الدينكا العرقية في المنطقة الجنوبية لبحر الغزال، و قد أسرت هذه المليشيات الأطفال والنساء الذين تم نقلهم إلى غرب السودان وأماكن أخرى، وكانوا يُجبرون على العمل بالمجان في المنازل وفي الحقول، ويعاقبون عندما يرفضون، ويتعرضون للإيذاء الجسدي والجنسي في بعض الأحيان، ووفقًا لتقرير صدر عام 2002 عن مجموعة الشخصيات البارزة الدولية (بتشجيع من وزارة الخارجية الأمريكية)، فقد أُدينت كل من الميليشيات المدعومة من الحكومة والمتمردين (بقيادة الجيش الشعبي لتحرير السودان) باختطاف المدنيين، وخلص الفريق إلى أنه في عدد كبير من الحالات، يعتبر الإختطاف المرحلة الأولى والذي يندرج تحت تعريف الرق في الاتفاقية الدولية الخاصة بالرق لعام 1926 والاتفاقية التكميلية لعام 1956.
حمل العديد من العبيد المحررين آثار الضرب والحرق وأنواع التعذيب الأخرى. أبلغ أكثر من ثلاثة أرباع النساء والفتيات المستعبدات سابقاً عن تعرضهن للاغتصاب.
بينما تتجادل المنظمات غير الحكومية حول كيفية إنهاء العبودية، إلا أن القليل منها ينكر وجود هذه الممارسة، تتراوح المحفزات لعدد المستعبدين الآن في السودان من عشرات الآلاف إلى مئات الآلاف (دون احتساب أولئك الذين تم بيعهم على أنهم عمالة قسرية في ليبيا)، ولم تعترف الحكومة السودانية أبدًا بوجود (عبودية) داخل حدودها، ولكن في عام 1999، وتحت ضغط دولي، أنشأت لجنة القضاء على اختطاف النساء والأطفال (سيواك)، حيث تمت إعادة 4000 جنوبي مختطف إلى جنوب السودان من خلال هذا البرنامج قبل إغلاقه في عام 2010.
نجد أن غالب الرقيق الذى تم تحريره في مناطق السودان لم يسلم من وصمة الاسترقاق وأصبحت اللغة المستخدمة وسط مجتمعات تلك المناطق مثل السرية في محاولة لوصم الآخرين بتاريخ استرقاقهم واسترقاق ذويهم، ومنذ تحرر الكثيرين من الرق أصبح اللون مكافئ للعبودية وملازم لها في السودان، فالقبائل ذات الأصول الأفريقية هم العبيد في ذاكرة السودانيين المنحدرين من أصول عربية حسب زعمهم، وحتى هؤلاء عندما يكون الفرد منهم أسود اللون يطلقون عليه كنية “عب“.
و حتى الآن يعتبر الحديث عن العبودية و الرق في السودان من التابوهات و القضايا المسكوت عنها في السودان، و يتهرب كثير من السودانيين و خصوصا السياسيون و من بيده السلطة في البلاد.