المؤثرات الثقافية على الغناء في السودان:
إكتسب الغناء السوداني ثراءه من مزجه للفن العربي و الأفريقي و التنوع الثقافي و الإثني الذي إنعكس على تعدد الأشكال و الأنماط الموسيقية و الغنائية في السودان ، فهناك مؤثرات و روافد ثقافية وضعت بصمتها بصورة واضحة على الغناء في السودان و هي تبيين مدى التواصل الزماني و الثقافي الناتج.
و يُرجئ الكثير من الباحثين تاريخ الغناء السوداني بصورته الماثلة اليوم إلى ما بعد الهجرات العربية و إنتشار الدين الإسلامي في الممالك الكُبرى مثل الفونج و تقلي و الفور ، و هي الفترة التي تلاقحت فيها الثقافة العربية بالأفريقية و كانت بداية لنشوء ما يُعرف بثقافة الوسط و تكون الدولة السودانية الحديثة، فنجد أن العرب و عند دخولهم إلى السودان حملوا معهم ترتيل القرآن و الآذان و الدوبيت و آلاتهم الموسيقية كالرباب و الطار و الطبل الكبير ، فبدأت الموسيقى العربية تفرض نفسها على الحياة و المجتمع عبر الإنشاد الديني و حركة البدو الرحل و نشاط العرب التجاري و الحرفي في المدن ، فبدأت الموسيقى السودانية تأخذ طابع مستعرب و تنامت ثلاثة أشكال للموسيقى في السودان: موسيقى عربية في غرب السودان، موسيقى أفريقية في جنوب السودان، مزيج أفريقي عربي في وسط و شمال و شرق السودان، و عند دخول المستعمر التركي بدأت الموسيقى بالتطور و إمتزجت اللهجات المحلية مع العربية في قالب السلم الخماسي، لكن في عهد الدولة المهدية حدث ركود فني سببه حظر الغناء و الرقص و حتى نشاط الطرق الصوفية ، و ذلك بالطبع في ظل أيدولوجية المهدية.
يقول مؤلف كتاب (من تاريخ الغناء و الموسيقى في السودان):
إن الأغنية السودانية المعلومة في تركيبتها الإجمالية أفريقية عربية، لكنها من خلال الوجدان الجماعي و تنوع بيئات السودان ظلت تتدرج لتصبح شيئا سودانيا مستقلاً، لكن الكثير يقوم بإدارج الغناء في السودان تحت الهوية الأفريقية بسبب السلم الخماسي الذي يوجد في اغلب غنائنا ،
و لكن الدكتور عبد الله علي إبراهيم يقول في تقديمه للكتاب أعلاه:
أن اغنيتنا المعروفة ترعرعت في ظل الاغنية العربية و خصوصا المصرية بأكثر من الاغنية الافريقية ، و أن تعاملنا مع أفريقيا لا يتعدى التأثر بالذوق الأثيوبي و الصومالي خلال الحرب العالمية الثانية و ما وقع من تأثير على عثمان المو و شرحبيل أحمد من غناء الجاز و جنوب السودان و شرق افريقيا، بل أحيانا ان اغنيتنا قد تأثرت من الشرق و من الغرب بما يعادل تأثير أفريقيا، فقد تسرب الأثر البريطاني-الإسكتلندي و التركي إلى موسيقانا عن طريق جلالات الجيش السوداني.
أما التأثير المصري العربي فقد وقع من جهة إحتكاك مغنينا بمصر من خلال زياراتهم لتسجيل الإسطوانات أو لإذاعة ركن السودان و التي تُعد من أكبر معامل إعادة تفريخ الأغنية السودانية، و تأثرنا بالغناء المصري يتجلى بصورة واضحة في مزاوجة الكاشف بين المقامات في أغنية (فتنت بيه) حتى قيل انه خرج من الخماسي الى السباعي ، كما ان المرحوم خضر حمد بعث في الثلاثينيات بأغنية (يا غزال الروض) إلى معهد فؤاد الأول للموسيقى بالقاهرة ليخرجوا بها من المحلية دون طمس سودانيتها.
يمكننا تلخيص الروافد و التأثيرات الثقافية العربية على الأغنية السودانية الماثلة اليوم في الآتي:
- ثقافة شعرية قديمة: و يتجلى بصورة واضحة في قصائد الغناء التي ألفها الشعراء ، فالجدية المقدرة و العناية المفرطة بالشكل و المعنى للقصيدة يوضح مدى إلمامهم بالثقافة الشعرية القديمة.
- ثقافة إسلامية: و هي تمثل الخلفية للقدر الأعظم من المواطنين.
- ثقافة تاريخية عربية: و هي مرتبطة بالتاريخ العربي العربي القديم بصورة خاصة و بالسير الشعبية التي تحكى عن العرب.
و توجد العديد من النماذج الشعرية و القصائد التي يتضح تأثرها الثقافة العربية و الإسلامية و ابرزهم: إبراهيم العبادي و عبيد عبد الرحمن و سيد عبد العزيز و إبراهيم سليمان و غيرهم.