يقول المثل؛ “أن تأتي متأخرا خير من أن لا تأتي”، وفي حقيقة الأمر نجد أن هذا هو مايحدث الآن في الساحة العلمية والتوثيقية التاريخية، المتعلقة بنطاق وادي النيل شعباً وأرضاً.
فنجد أن الغالبية العظمى منا قد تم تدريسها وتلقينها وتحفيظها بمعلومات مغلوطة عن حضارة وادي النيل، تنسبها إلى غير صانعيها بوقاحة صادمة، تنم عن انعدام الضمير العلمي والإنساني على حد سواء لدى المخططين لهذا التزوير، خصوصاً وأنهم يعلمون جيدا أن اعترافهم بالحق والحقيقة التي لا لبس فيها ستؤكد انهم مستوطنون على أرض كيمت السفلى (مصر) على مر الحقب الزمنية المثبتة تاريخياً، بدءا من العصور اليونانية والبلطمية والرومانية والآشورية والفارسية ثم العربية والمملوكية والعثمانية التي نزح الكثير في زمنها من أهل الشام وكذلك الليبيين في عقود أقدم إلى مصر الحالية مابعد أسوان، حتى بتنا نرى اليوم الفروق الكبيرة بين عدد سكان مصر وما جاورها من الدول التي نزح سكانها إلى مصر توالياً، والتي جاءت فيها المجموعة الأخيرة من الهجرات المستوطنة في أرض كيمت السفلى (مصر).
على صعيد آخر تقول المبادئ الإنسانية أن الإعتزاز بالأصل شرف، ومحاولة الانتساب إلى أصل آخر مع إنكار الأصل الحقيقي هو الخسة والمهانة والجالب لعدم الاحترام مباشرة، فهل تاهت عن هؤلاء هذه القيم؟ ، أم أنهم ظنوا أن الفكرة ستنطلي على العالمين عبر هذا التزوير الفاضح؟ .
طبعا تأخرت المواجهة كثيراً بين الواقع التاريخي والتزوير الحديث لأسباب كثيرة منها كما ذكرنا التلقين والتعليم المتعمد للمعلومات المزورة عبر الإستلاب الثقافي، والسيطرة الكاملة على النخب الأصلية في وادي النيل سياسياً وفكرياً، إضافة إلى سياسة الاستعمار التركي والبريطاني أن لا بد لكل شيء يذهب إلى كيمت العليا (بلاد النوبة – السودان)، لا بد وأن يمر أولا عبر المستوطنين الأوروآسيويين في كيمت السفلى أولاً، بأساليب ممنهجة وداعمة عالمياً للمستوطنين في كل مكان، وهذا ما نراه من دعم العالم الغربي للمستوطنين في أمريكا الشمالية (كندا والولايات المتحدة) بعد إبادة سكانها الأصليين، وكذلك الدعم الكبير للمستوطنين الصهاينة في فلسطين، والمستوطنين كذلك في استراليا وهكذا، وتفتح طبعا لهم الهجرات من كل أنحاء العالم ويضيع حق السكان الأصليين بينهم بهذا الشكل الغير مقبول.
الوعي الحديث في وادي والذي تزامن مع الاكتشافات الأثرية الهامة التي تثبت أن شعب وادي النيل القديم والمؤسس للحضارة الفرعونية الكمتية هو الشعب الكمتي الأسمر شعب وسط وشمال السودان وبلاد النوبة عامة، هو ما أدى إلى تنامي انتشار حقائق الواقع التاريخي بين الأفراد والنخب، فبالرجوع مثلاً إلى أول مملكة تأسست في وادي النيل وهي مملكة تاسيتي على أرض النوبة، نجد وفقاً للدراسات التي أجراها خبير العظام المصري أحمد بطراوي أنها خرجت بكثير من النتائج الهامة، حيث وبعد أن قام احمد بطراوي بفحص العديد من الهياكل العظمية خلال حملة إنقاذ النوبة في الستينيات فإن النتائج التي وصل إليها بطراوي أثبتت بشكل حاسم أن السكان القدماء بین الاقصر وحلفا ، لا يشبهون سكان مصر الحالية ، بل أنهم سلالة تتطابق مع سكان شمال السودان الحاليين.( Reports on Human Remain , Cairo 1935)
أما وليام آدمز فيقول: “لم يعد من الضروي جلب اقوام أجنبية لتعليل الفروقات الحضارية .. إن جميع الحضارات تعود لممثل واحد ، كما أن نتاج التطورات لم تزد عن عملية طبيعية للتطور والإرتقاء ، إن الهجرات قد وقعت بالفعل، إلا أنها لاتعدو كونها نزوحات لنفس الجنس السوداني القديم”. ( وليامز : النوبة رواق افريقيا ص 106 – 109 )
أما وولتر أمري فيرى أنه: “في واقع الأمر لا شك أنهم هم السكان انفسهم الموجودون في بيئة لا اختلاف بینها. (وولتر امري ، مصر وبلاد النوبة 2008).
ويري أحمد الياس: أن السكان وحضارات شمال السودان وجنوب مصر الحاليون أصل واحد مشترك ، ولكن وفي مرحلة لاحقة مع بدايات عصر الأسرات فإن منطقة شمال الأقصر ارتبطت بالتدريج مع ثقافات البحر المتوسط ، في حين أن جماعات جنوب اسوان اتجهت حضارياً نحو وادي النيل الأوسط في شمال السودان الحالي.
وختاماً نجد أن مشوار تمليك الحقيقة وكشف التزوير ليس بالسهل، خصوصاً أننا نجد عندما نقارع الحجة بالحجة ونلجم أفواه المزورين نتفاجئ بكم الاساءات الشخصية والغير أخلاقية، والتي هي بالطبع نتاج مباشر لعلمهم بالحقيقة التي نصدح بها وإعلاناً لانهزام التزوير أمام الوقائع التاريخية، والله من وراء القصد.