1- الأيدولوجيا والجذور
من أكبر البصمات في تاريخ السودان الحديث والتي لايمكن أن يتجنبها أي باحث أو دارس لهذا التاريخ هي الحقبة المهدية, لذلك كانت الصفه الغالبة لأغلب المؤرخين ودارسي تاريخ السودان الحديث.
الملاحظ في هذه الدراسات التي قامت حول هذه الحقبة هي التباين الشديد جداً بينها، وهذا التباين يصل في كثير من الأحيان إلى التضارب ، فتجد الرأي وعكسه مما جعل الأمر محير لكثير من الدارسين.
أعتقد أن سبب هذا التباين هو استخدام تاريخ المهدية في السياسة الحديثة للسودان،مما جعل التاريخ أداة من أدوات المنظومات السياسية الحديثة، وهذا جعل الحديث عن هذه الحقبة وغيرها يتغير بتغير المصالح السياسية الحزبية والفئوية والأيدلوجية، وطبعا هذا يقدح ويضعف الجانب التاريخي الحقيقي.
فإذا لم يتخلص التاريخ من السياسة المعاصرة فهذا سيولد المزيد من التجاذبات والتباينات مما سيجعل تاريخنا عرضه للتزوير والتغيير وهذا لايصب في مصلحة الوطن والعلم.
لذلك سنحاول أن ننظر لهذه الحقبة بعين أخرى تراعي المعلومة الموثقة والمنطقية ونستشف ماوراء السطور دون محاولة فرض رؤية مسبقة، لذلك كان لابد أن نبدأ من المهدية كفكرة أيديولوجية وخلفيتها وتفاعلاتها.
فكرة المهديه: –
تقوم فكرة المهدية الإسلامية في أن النبي محمد ( عليه السلام ) هو آخر الأنبياء والرسل، ولهذا لايوجد نبي بعده، لذلك في آخر الزمان عند اشتداد البلاوي والمحن وحصول هزة في الدين والعباد, فيبعث الله شخصاً من ذرية النبي محمد ويكون مهدياً من الله ليعيد الحق لنصابه ويحارب مصدر الشر ( الدجال) وينتظر المسيح عيسى بن مريم ليحارب معه الدجال وتكون القيامة على الأبواب.
والمهديه من الأمور المتفق عليها عند الطائفتين الإسلاميتين السنة والشيعة، مع وجود بعض الإختلافات, وقد ذهب كثير من المؤرخين أن فكرتها في السودان هي نتاج التأثر بالشيعه ، وهذا غير صحيح. وربما نتج هذا الرأس بسبب عدم دراستهم لأفكار الطوائف الإسلامية، أو لأن الطائفة السنية المعاصرة لاتتحدث عن هذا الأمر، لكن في الحقيقة هو متجذر في الفكر السني وبصورة لاتقل عن الشيعي، لكن الطائفة الشيعية الامامية تحديدا جعلت المهديه هي من أولويات الدين، وذلك بسبب طبيعة الصراع القائم تاريخياً بينهم وبين السلطة الحاكمه والتنكيل الشديد الذي حاق بهم.
البعض ربط بين التصوف والمهدية، وهذا مقبول نوعا ما، لكن المهدية ليست بالأهمية الشديدة عند الصوفية المعاصرين، لأن الأهم هو الولي أو الشيخ، لذلك المهدي ينظر له كأمر مستقبلي عقدي، لكن ليس بأهمية آنية.
ففكرة المهديه تجد البيئة الخصبة للقبول والاتباع في حالة الظلم الشديد والقهر وتكون الأمل المرتجى, وهذا الذي أدى الى سرعة قبولها في السودان عندما ابتدأت دعوتها .
المهدية في السودان:
المهدية في السودان كانت نتيجة لفكرة عامة سادت في المنطقة الإسلامية، فنسبة للظلم الواقع على الشعوب نشأت حركات تحررية اعتمدت على الحشد والاستقطاب الديني، فكانت الحركة الوهابية في نجد والحركة السنوسية في ليبيا.
لكن الأثر الأقوى والذي مهد للمهدية في السودان هي حركة الجهاد التي أسسها الشيخ عثمان دانفوديو في منطقة السودان الغربي (نيجيريا حاليا) وذلك لأنه حدد أن المهدي سيأتي بالمشرق وبأرض النيل، مما جعل المؤمنين بالفكرة يتوافدوا للسودان الشرقي (السودان الحالي) على أمل العثور على المهدي ومبايعته. وبعض الآراء تقول أن دانفوديو جاء للسودان بنفسه للترويج للمهدية والمهدي، ومن ضمن المهاجرين المؤمنين بالمهدين هو والد عبد الله التعايشي الشهير ب ( تور شين ).
شخصية عبد الله ود تور شين هي شخصية محورية في المهدية وأعتبرها أنا أنها الشخصية الأساسية في الحركة المهدية في السودان ككل, بينما المهدي هو صاحب الدور ثانوي، فعبد الله ود تورشين لم يكن مؤمنا بالمهدية فقط، بل كان مروجاً لها ومبشراً بها، وكان مشهوراً عند الناس بأنه رجل دين ورجل كرامات ومكشوف عنه الغيب وكان ذائع الصيت جدا .
وهذا يتضح لنا مما ذكره الزبير ود رحمة باشا في مذكراته أن عبدالله ود تورشين المكنى بالتعايشي قد جاءه وبشره أنه المهدي المنتظر وطلب منه إعلان الدعوة، لكن الزبير قابلها بالرفض، وغالباً لأنه كان ذا سلطة وقوة ونفوذ، فلايحتاج للمهدية. كما أنه كان ينظر لود تور شين على أنه ساحر متخصص في ضرب الرمل, والجدير بالذكر ان الزبير في مذكراته قد ذكر ان التعايشي من اصل تكروري وهو ما اكد اثر دانفوديو في اصل الفكره.
وماذكره الزبير هذا يوضح بجلاء دور عبد الله ود تورشين ( التعايشي) المحوري في المهدية، وقد يتبادر للذهن، لماذا لم يعلن هو أنه المهدي؟؟؟
أعتقد أن هذا راجع إلى أنه ابن أحد الذين جاءوا لمبايعة المهدي وأحد المبشرين به، فرجل يبشر بالمهدي ويدعي أنه عالم به وبآيات ومبشرات ظهوره، فكيف يخفى عليه أن ابنه هو المهدي؟ أو الابن الذي ورث الدعوة، كيف يخفى عليه أنه هو المهدي المنتظر؟ لذلك كان لزاما عليه أن يكون أخلص اتباع المهدي، لا المهدي.
يتبع
المراجع:-
1-تاريخ المهدية محمد إبراهيم أبو سليم.
2-المقاومة الداخلية لحركة المهدي.
3-دولة المهدية سيرجي سمرنوف.
4-مذكرات الزبير ود رحمه.