لم تحظَ اللغات النوبية المحكية – خاصة النيلية منها (انداندي و نوبين ) – ببحوث جادة وعميقة في مقارنتها بالكتابة الهيروغليفية (اللغة المصرية القديمة)؛ ربما يعود السبب في ذلك لاختلاف الإنتماء العائلي لكل من اللغتين، فاللغة المصرية القديمة تنتمي إلى عائلة اللغات الآفرو آسيوية بينما تنمتي اللغات النوبية إلى عائلة اللغات النيلية الصحراوية.
لكن ما كان ينبغي أن يكون اختلاف العوائل اللغوية مدعاة للتجاهل والتغافل عن حجم التشابك التاريخي المستمر لسكان وادي النيل لاسيما مصر السفلى وشمال السودان. فمملكة تاسيتي التي تقع في قلب النوبة المصرية هي نواة حضارة وادي النيل بشقيها المادي والروحي، و مما لا شك فيه أن التفاعل الإجتماعي بدأ قبل مملكة تاسيتي، هذا بالإضافة إلى التأثير السياسي الذي حدث بعد ظهور الأسرات وحكم كمت لـ( كوش/ النوبة) الذي استمر لـخمسمائة عام وكذلك حكم الأسرة الخامسة و العشرين الكوشية لكمت( مصر ) ما يقارب المائة عام . بالإضافة إلى حركة السكان شمالاً وجنوباً والهجرات الجماعية و التي كانت مستمرة الحدوث إلى عهد قريب و مازال أثرها الإجتماعي قائم إلى يومنا هذا.
جميع تلك الاسباب آنفة الذكر تدعم بعض الاستنتاجات الأولية و الانطباعات الأولية التي تشكلت لديّ من خلال البحث في المشتركات اللغوية من ناحية المفردات والقواعد بين اللغة المصرية القديمة واللغة النوبية النيلية (لاسيما الانداندي والتي هي اللغة مناط البحث )،حيث يبدو جلياً أن تلك المفردات من الصعب أن تكون من نتاج استلاف لغوي كمفردات مهاجرة أولاً لأنها مفردات أساسية في اللغة بحيث أنها ليست ذات استخدام واحد وإنما تدخل في تراكيب الجمل كأفعال مساعدة مثل هذه المفردة.
تيب.. teb بمعنى ( قف/توقف) وهي متطابقة نطقاً ومعنى في المصرية القديمة و الانداندي، و تدخل أيضاً في تركيب الجمل مثل:
تيب اونجي.. يتهيأ للبكاء.
تيب كلي ..يتهيأ للاكل.
الخ من الجمل التي تصاغ بهذا الشكل.
إضافة إلى ذلك نجد أن المفردات نفسها تشتق منها عدة معاني من خلال اضافة اللواحق او السوابق او من حذف وابدال واضافة أحرف على سببل المثال:
مفردة (بل bel) بمعنى أخرج و التي تنطق في اللغة المصرية القديمة( بر ber ) وفي ( والانداندي .. تنطق bel ) والإبدال بين الراء واللام طبيعي جداً. تشتق من هذه المفردة عدة مفردات بمعاني في ذات السياق مثل:
بل bel ..أخرج
بود bod.. الخارج
بوجي .. boji .. بمعني خارج محدد لداخل مثل حوش المنزل وهكذا
برود barawid .. فناء شاسع مثل ميدان او المساحات الخالية بين القري…الخ
بلتي belti.. خُرّاج ( مرض في الجسم )
بليد beleed..الخروج
إضافة لمفردة أخرى أظن أنها مشتقة من (بل bel) وهي كلمة امبل بمعني انهض .. واظنها من مقطعين( ام -بل) ( im- bel ).
واذا ماقارنا مفردة ( بر/ بره ) المستخدمة في اللغة العربية الفصحي وفي العاميتين السودانية المصرية بمعني واحد وهو( الخارج ) ولا تشتق منه اي معاني اخري .. سنجد ان مواصفات المفردة المستلفة تنطبق عليها في العربية الفصحي والعاميتين المصرية والسودانية بينما في اللغة النوبية( انداندي ) تبدو المفردة اصيلة رغم حالة الابدال بين حرفي الراء واللام والتي تعتبر شائعة الحدوث في الانداندي.
و هنالك مفردة أخرى وهي( بو ) ( bu او bo ) والتي تأتي في الأنداندي في تراكيب لا حصر لها وقد لا تخلو جملة منطوقة في الانداندي من هذه المفردة، مثل :
أمثلة لوصف الحال ..
مني بو .. كيف الحال ؟
و أمثلة أخرى .. نوق بو ( ماشي) نير بو ( نايم ) ..الخ.
و أمثلة أخرى … كل بو ( مأكول) . سمركي بو ( مستعجل ) .. قاش بو( مدلع ).
والكلمة تاتي ايضاً بمعنى موجود أو متوفر أو مسلتقي..الخ
وردت في المصرية القديمة بمعني place..
اي bua بمعني مكان أو موضع أو حالة.
والنماذج المشابهة للمفردات السابقة لا حصر لها مما يؤكد أن المشتركات اللغوية في المفردات والقواعد بين اللغة المصرية القديمة واللغة النوبية النيلية ليست نتاج هجرات للمفردات أو استلاف لغوي وإنما هي مفردات أصيلة في اللغتين أو بالأحرى أصيلة في اللغات التي أنجبت اللغات النوبية الحالية باعتبار أن اللغة المصرية القديمة هي لغة أم ومندثرة. فهنالك لغة أم مندثرة انجبت اللغات النوبية الحالية( ربما ) تمايزت مجموعات سكانية قديمة في وادي النيل لأسباب سياسية واجتماعية واختلطت بمجموعات مهاجرة جديدة لتتشكل لغات جديدة في وادي النيل ذات طابع نيلي صحراوي نتاج اختلاط السكان الاصليين بالمهاجرين. وهذا يفتح الباب لمحاولة قراءة الكتابة المروية بالتعمق في المشتركات بين اللغة المصرية القديمة واللغة النوبية النيلية.