الديمقراطية للديمقراطيين
ما بين العام 1956والعام 2021 م ، لم نحظى سوى ببعض السنوات التي حكم فيها النظام الديمقراطي، والذي افتقرنا فيها للمعرفة العميقة لمعنى الديمقراطية التي نطالب بها، بيد ما نلناه من تكتلات الحكم العسكري الذي استحوذ على نصيب الأسد في السلطة منذ فجر الاستقلال، وما هو الشيء الذي يجعل الأنظمة العسكرية أكثر استقرارا وأطول أمدا؟ وماهي العقبات التي وقفت وما زالت تقف حجر عثرة أمام النظام الديمقراطي ذو الحبال القصيرة والرؤية المشوشة؟..
الحكم البرلماني الموروث :
خرج المستعمر بعد مكوثه في هذه البلاد قرابة ال60 عاماً رسم لنا كل شيء الحدود الجغرافية، نظام الحكم، الأنماط التي تسير بها المؤسسات الحكومية وحتى طريقة الحياة العامة.. وهكذا الحال في جميع المستعمرات البريطانية الذي يجذر مفهوم الخبث السياسي وغسل العقول وكأنما تعمّد على إحداث انسلاخ سياسي وثقافي واجتماعي في عقلية الإنسان السوداني، وفي الحديث في هذا الصعيد وعن جوهر الحكم الذي تم الأخذ به بعد الاستقلال وفي كل فترة ديمقراطية مرت على البلاد نجد أنه النظام البرلماني الذي يعرف اختصارا بأنه :
نظام يستند على مفهوم المساواة بين السلطتين (التشريعية والتنفيذية).
من هذا التعريف يتضح لنا ضرورة وجود تناغم بين الفئات الموجودة على السلطة وأيلولة الفصل المرن بين السلطات، حتى يسير كل على حدا في الاتجاه الصحيح ولكن هذا المفهوم المثالي يصعب تطبيقه على السودان ذاك البلد الذي يعاني من التشرذم السياسي الذي عادة ما يتحول من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، وكما رأينا في جميع النماذج الديمقراطية التي حكمت البلاد والتي سنعقب عليهم جميعا في هذا المقال.
شواهد فشل الديمقراطية الأولى :
لأجل ممارسة الديمقراطية لابد من وجود الأحزاب في الميدان السياسي، والتي تشكل رأس الحربة في الصورة الحاكمة.. ولكن في التجربة الأولى لم نتنعم بالاستقرار الواضح لها، ولربما كان ذلك من أجل الحداثة السياسة التي ولدت من رحم تشاكس حزبي طائفي عقدي من بعد الاستقلال مباشرة ، وانقسامات تصدعت عنها أحزاب متعددة..ولكن دائماً ما يكون ” الإختلاف رهين الإئتلاف”.
فزخم الأوضاع الحرجة آنذاك وتخوف كل حزب من عدم اكتساحه الأغلبية وضرورة الائتلاف مع أحزاب وإقصاء أخرى، أدى هذا الترهل في كيفية تسيير الأوضاع السياسية في البلاد إلى دفع رئيس الوزراء عبدالله خليل لتسليم السلطة إلى العسكر، ومن حينها تلهّث العسكر تجاه الحكم في لحظة ضاع فيها المشروع الديمقراطي في السودان.
مآلات التجربة الثانية بعد نجاح أول ثورة شعبية:
سقطت الديمقراطية الأولى وجاء عبود وتربع على الكرسي فعل ما فعل من تخبط وتأرجح كان واضحاً تماماً في الساحة السودانية ؛ ثم أسقط بثورة شعبية نادت بالديمقراطية ففي هذه المرة نجد أنه لم يكن هنالك تجديد في الأطروحة السياسية التي قدمتها الأحزاب.. لعل ذلك يمكن ردّه لعدم وجود عقلية نابعة تقود للتغيير الحتمي، ولو استغل الأحزاب فكرة” عدم تكرار الفشل في التجربة الأولى” لما كان هو الحال يؤول للخلافات مرة أخرى.. وحتى كيفية التعامل مع الحزب الشيوعي الذي آثار الجدل حينذاك لم تكن صائبة وسياسية محنكة،، و ستلاحظ عزيزي القاريء في تلك الفترة كان الوضع العام للسودان متهالك جدا من جميع النواحي ويحتاج لإبعاد الأحزاب لمشاكلهم الداخلية على زاوية وتوحيد القرار لإسعاف البلاد منعاً من أي انزلاق يطيح ويزعزع الاستقرار المنشود.
ما بعد العهد المايوي هل ستنتعش الديمقراطية؟!
عاودنا للمرة الثانية للحكم العسكري وهذه المرة بفترة طويلة، كان نميري واللغط الذي يدور حول ارتباطه بالحزب الشيوعي يعكس لنا ردة فعل الشيوعيين وخصوصًا بعد طردهم من الجمعية التأسيسية إبان الديمقراطية الثانية ، وعلى كلٍ، قضى نميري فترة حكمه تلك حتى سقوطه بثورة أبريل.. وبعد انقضاء الفترة الانتقالية جاءت الديمقراطية الثالثة بنفس الحلة والثياب والأشخاص، وبالإضافة إلى نفس العقبات التي وقفت أمام الحكومات الائتلافية السابقة، فحكومة الصادق المهدي وعلاقتها بالجيش كانت تعتريها الهشاشة وعدم الثقة وتسودها الاتهامات والتراشق بين الطرفين مما أدى إلى تلويح الجيش بالتدخل في السياسة.
عامان ونصف بعد سقوط الإنقاذ :
في هذه المرة استمرت الديكتاتورية لمدة ثلاثين عاما، ونحن نعيش الآن في خضم فترة انتقالية تتسم بالازدواجية المدنية العسكرية في السلطة ولربما تبدو هذه الفترة كحصيلة لجميع الأعوام الماضية منذ الاستقلال فإن :
أي ائتلاف مدني عسكري يقود لاختلاف فوضوي دموي.
بمعنى أنه لا توجد رؤى واضحة لكل طرف من الأطراف السياسية علاوة على خبايا التغولات الخارجية التي تدعي أنها تدعم المسيرة الديمقراطية في البلاد وغيره من الإشكالات الاقتصادية والسياسة، وتكدس مكونات الجيش واندماجها في العملية السياسية وتقلب الأحوال الأمنية إضافة إلى سلسلة من الانقلابات التي تفضي بالوضع إلى الرجوع لنقطة الصفر.
نقاط على الهامش :
نرى أن محصلة الأعوام التي شهدت فيها البلاد فترة ديمقراطية أو حكم برلماني سادها التنازع الساذج بين الأحزاب ؛ بالرغم من أنها لم تحظى بشعبوية أو بجماهيرية مطلقة أو تفويض خالص.. وحتى حين مجئ الحكومات العسكرية التي تطول بها السنين في السلطة تبقى الديمقراطية مجرد ذكرى وليست فكرة، وهنا نقف على سؤال “هل المشكلة في النظام الديمقراطي أم في الديمقراطيين”؟! لعل الإجابة تكمن في العقلية الديمقراطية التي تحكم، فإذا كان السودان للسودانيين فلابد أن تكون الديمقراطية للديمقراطيين.
وبالتعقيب على أشكال الحكم العسكري ولماذا يطول بها الأمد، نجد أنه كدولة متخلفة ودولة عالم ثالث تحكمها قوة السلاح فإن هذا يرسخ معنى مهم يتمحور حول نجاح التجربة العسكرية بالنسبة للرؤوس الحاكمة، بغض النظر عن ما يعانيه الشعب من ويلات الاستبداد الدكتاتوري الفظ.. وفي النهاية إذا كان الحكم الديمقراطي لا يمكن التعويل عليه والحكم العسكري شبح لا يطاق ، فيظل أخف الضررين هو اختيار الديمقراطية العادلة التي نأمل أن تكون خير دليل لقيادة البلاد نحو الطريق الصحيح.