عند الحديث عن الدولة المهدية وعلاقتها بتاريخ الإسلام في السودان لابد من التطرق لمدى التأثير الكبير الذي صاحب هذه الحركية الدينية الثورية في حياة الإمام محمد أحمد وخليفته عبد الله التعايشي من بعده، لنسلط الضوء على أبرز معالمها التجديدية التي أثرت بشكل أو بآخر على الوعي الديني في ذلك الوقت والممارسات السياسية على حد سواء.
بدأت ملامح شخصية الإمام محمد أحمد التمردية بالتشكل في وقت مبكر، بداية برفضه الأكل والشرب وكافة المعينات التي كانت تقدمها الحكومة التركية للخلاوي بإعتبارها مالاً حراماً مروراً بخلافه الشهير مع شيخه محمد شريف نور الدائم لإحتفاله بختان أبناءه بطريقة إعتبرها الإمام غير لائقة فطرده الشيخ وأقصاه، وقيل أن سبب الخلاف كان إسرار الإمام له بدعوته المهدية.
وقد قام في بداية دعوته القائمة على الزهد والورع بالدعوة للتقشف وذكر خواء الدنيا، وحض أتباعه بلبس المرقع من الثياب(الجبة المرقعة)، ومنع النساء من الذهب والفضة ومنع الشتم والألفاظ البذيئة، وتشدد في منع الدخان والخمر والحشيش، ومنع النياحة على الأموات وبسط الزواج ومنع الرقص والمعازف وغلاء المهور.وعلى الرغم من كل ذلك فإن التأثيرات السلبية قد طغت عليها وفيما يلي نورد بعض النقاط وتأثيرها على المدى الطويل.
كفر كل من خالف دعوته ولم يؤمن بها وهو بذلك يعد من أوائل التكفيريين في السودان حيث ورد في خطابه إلى محمد الطيب البصير:
” فيأتي النبي ويجلس معي ويقول للأخ المذكور: شيخك هو المهدي، فيقول إني مؤمن بذلك، فيقول: من لم يصدق بمهديته كفر بالله ورسوله، قالها ثلاث مرات”
وقد إستحل بذلك دماء مخالفيه ومعارضيه وأدى ذلك لإستباحة الخرطوم عند فتحها لأكثر من ثلاثة أيام وقد إختلف المؤرخون حول صحة ذلك.
أصّل لبعض الممارسات والخرافات الصوفية-والتي ما زال بعضها سائداً إلى اليوم-كإجتماعه بالنبي في الحضرة النبوية في حالة اليقظة وأحياناً بنبي الله الخضر والشيوخ والأقطاب الغائبين والأموات السابقين والملائكة كعزرائيل ويتضح تأثره الواضح بها عند رفعه لرايات مكتوب عليها أسماء الأقطاب الأربعة “الجيلاني، الرفاعي، الدسوقي والبدوي” في معركة الجزيرة أبا.
بجانب إدعاءه العصمة الكاملة لنفسه فقد نسبها لخليفته عبد الله التعايشي والذي مهد لصنع ديكتاتوريته فيما بعد وفاة المهدي، وقد ورد ذلك في جزء من منشور يقول فيه:
“وأعلموا أن جميع أفعاله وأحكامه محمولة على الصواب لأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب”
أذاق الخليفة عبد الله السودانيين الأمرين طيلة فترة حكمه مسنوداً بهذه الوصية من الإمام بفرض الطاعة له تحت كل الظروف، وأسوء نتائجها تلك المذابح والمجازر التي قام بها الخليفة على غرار مجزرة الجعليين في المتمة ومذبحة البطاحين في أمدرمان، وتعذيبه وسجنه للمخالفين، مثل القاضي حسين الزهراء الذي منع عنه الأكل والشراب حتى مات نتيجة لعدم إلتزامه بمنشورات المهدي وكذلك تعذيبه للقائد الزاكي طمل، و بناءه قبة فوق قبر المهدي وألزم الناس بالحج إليها بديلاً عن حج بيت الله الحرام وغيرها من الممارسات التي يضيق المجال بذكرها والتي لم تجد من يقف أمامها عملاً بوصية الإمام.
أوقف العمل بالمذاهب الفقهية المختلفة، وأبدلها بأوراده المعروفة بإسم (الراتب) وحرم الإشتغال بعلم الكلام وألغى جميع الطرق الصوفية وأبطل جميع الأوراد داعياً الجميع للإلتفاف حول طريقته المهدية و ورد أنه هدم بعض المساجد مثل مسجد الحلفايا ومسجد الختمية في كسلا ودعا الناس لشد الرحال لمسجده بأم درمان.
سمى الزمان الذي يسبقه بالجاهلية بالإضافة لبعض الإنحرافات الأخرى في منهجه كقتل المتهاون في الصلاة ومتعاطي التمباك بعد الإستتابة، ومنع حيازة الأرض وتملكها وغيرها.
وبهذا نكون قد وصلنا لنهاية سلسلة الحديث عن تاريخ المهدية في السودان وتأثيرها على الإسلام، وعلى الرغم من كون الإمام محمد أحمد ثائراً مناضلاً أفلحت ثورته في تحرير السودان من براثن الإستعمار التركي إلا أنه قام بتضليل الناس دينياً وغبش الحقائق الدينية ليدق مسماراً آخر في نعش الوعي الديني المتهالك أصلاً في تلك الفترة.
3 تعليقات