الدولة المهدية،، ماضٍ عريق وتاريخ مبهم (1)

تحتل الثورة المهدية التي اندلعت في ثمانينات القرن التاسع عشر في مواجهة الحكم التركي المصري المستعمر آنذاك لأراضي السودان حيزاً واسعاً ومقاماً مرموقاً في نفوس أهل السودان و قد تشكلت في الدولة المهدية –والتي نشأت بعد تحرير السودان من قبضة المستعمر– المعالم الرئيسية لشكل دولة السودان الحالي قبل أن يتم غزوها مجدداً ثم السيطرة عليها من قبل الإحتلال البريطاني.

أما من الناحية الدينية فتعتبر الثورة المهدية ثورة دينية بإمتياز فقد كان قائدها محمد أحمد المهدي أقرب لكونه زعيماً دينياً من قائد سياسي، ويتضح ذلك بشكل جلي في مبادئ دولته الأولى المتمثلة في إقامة خلافة إسلامية على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، حتى أنه عرف ب(الإمام) ولم يدعى بالرئيس أو غيره من المسميات الدالة على الزعامة السياسية، وأثرت الدعوة المهدية بشكل كبير على الساحة الدينية السودانية وما زالت آثارها موجودة حتى اليوم، وقد أحيطت بهالة من القدسية والتعظيم فأخذت بحسنها وقبحها، ولم تتعرض هذه التجربة لدراسات نقدية ترقى لمستوى الانحراف الكبير الذي حدث في تاريخ تلك الحقبة المهمة في تاريخ السودان.

ونحن إذ نهم بدراسة تلك الفترة لابد لنا من التعريج على سيرة إمامها محمد أحمد المهدي واللبنات الأولى التي ساعدت في بناء شخصيته الدينية وروحه الثورية، فمن هو محمد أحمد المهدي؟

هو محمد أحمد بن عبد الله بن فحل، ولد بجزيرة “لبب” المعروفة بجزيرة الأشراف التي تقع بالقرب من مدينة دنقلا شمال السودان في الثاني عشر من أغسطس عام 1844م،ورد أن نسبه يتصل بآل البيت وتحديداً إلى يعقوب بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويمتد نسب أمه إلى الفضل بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه، وقد ورد في كتاب(تبصرة وذكرى/تأليف البروفسور موسى عبد الله حامد) أن الإمام المهدي كتب في أحد منشوراته :

“وليكن معلوماً لديكم أني من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبي حسني من جهة أبيه وأمه، وأمي كذلك من جهة أمها فأبوها عباسي والعلم لله بل أن لي نسبة إلى الحسين رضي الله عنه”.

كان جده حاج شريف بن علي ذائع الصيت في جزيرة لبب وما حولها وإشتهر بالعلم والصلاح وقد توافد عليه طلاب العلم من شتى أرجاء الجزيرة وما حولها حتى أضحت خلوته كالنار على علم، ويقال بأنه كان”جد المائة أبو العشرة” وهي شخصية تاريخية كثيراً ما ذكرت في القصص القديمة لسكان شمال السودان وتدعي الكثير من الأسر انتسابها له، وقد كان حاج شريف زعيماً لأسرة الأشراف وبمرور الزمن وصلت زعامة الأسرة إلى السيد عبد الله بن فحل والد الإمام محمد أحمد، ونسبة لظروف إجتماعية ومادية هاجرت الأسرة من جزيرة لبب وحطت الرحال بمنطقة كرري شمال مدينة أمدرمان، وتوفي بها السيد عبد الله بن فحل، وقيل أنه دفن ب(وادي سيدنا) وسمي الوادي بذلك الإسم تيمناً به، ثم توالت هجرات الأسرة حتى وصلت لجزيرة (أبا) المطلة على النيل الأبيض ومارست مهنتها التي إشتهرت بها (بناء الزوارق والسفن الشراعية) ومنها كانت إنطلاقة الدعوة المهدية فيما بعد.

وقد شكلت الخلاوي التي درس بها الإمام محمد أحمد الخلفية الدينية التي سترتكز عليها الدعوة لاحقاً، فبرزت معالم شخصيته الزاهدة والتقية منذ صغره وقيل أنه كان يرفض الأكل من الطعام والمؤن التي تجود بها حكومات المستعمر على الخلاوي بإعتبارها مالاً حراماً، وقيل أن والده السيد عبد الله قد تنبأ بكونه المهدي المنتظر، و ورد أن شقيقه الأكبر محمد-والذي إشتهر كذلك بالورع والتدين وورث زعامة الأسرة من والده- قد قال:”إن لم يكن هذا الفتى الصغير هو المهدي فأنا المهدي” وقد أثارت هذه القصص جدلاً كبيراً حول مدى صحتها خاصةً وأن مصادرها تعتمد على القصص الموروثة في الأسرة وسنتعرض لها بشكل أكبر في مقالات قادمة بإذن الله.

Related posts

إشكالية إدارة التنوع الثقافي في السودان

الديمقراطية للديمقراطيين

جرائم عبر القرون ج (10)

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...