الفرعون بعانخي
و يعرف أيضاً بـ (بيى) أو (بيّا) ، هو ابن الفرعون كاشتا، وكان متزوجاً من الملكة (تابيري) ومن أبنائه من أصبح بعد ذلك فرعونا شبتاكا، و ترهاقا ، وله من البنات شبنؤبت الثانية ، أرتي، ونبرادجا، وتاكاحات أماني، و تاباكن آمون.
كان الملك كاشتا – والد بعانخي – يحكم من عاصمته نبتة في كوش. وبعد أن استطاع أن يفرض سيطرته على طيبة في صعيد مصر، قُبل حكمه ليحكم مصر، و اكتفى بذلك و لم يتقدم شمالاً ليضم كامل مصر.
في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد تنازع قصرين على حكم مصر: قصر الملك الليبي الموجود في سايس ، ويمثل الأسرة الرابعة والعشرون (740 – 712 قبل الميلاد) ، و قصر الملك النوبي، حاكم الأسرة الخامسة والعشرين (750 -655 قبل الميلاد).
و بعد وفاة كاشتا اعتلى ابنه بعانخي العرش في عام 745 قبل الميلاد في ظل هذا الصراع القائم بين القصرين الحاكمين داخل مصر. فقرر بعانخي التوسع شمالاً و ضم مصر بالكامل.
يقول بعانخي في مراسم تتويجه:
“الآلهة تصنع المُلك، والناس يصنعون المَلِك، إلا أن آمون قد جعلني ملكاً”.
وقال :
“وهبني آمون النبتى حق حكم جميع البلدان، فمن أقل له كن ملكاً يكن ملكاً، ومن أقل له لا تكن ملكاً لا يكون، و وهبني آمون في طيبة حكم مصر، فمن أقل له فلتصعد متوجاً يتوج، ومن أقل له لا تصعد متوجاً لا يُتوج، وكل من منحته حمايتي لا يخشى على مدينته، ولن أقوم بحال باحتلالها”.
بهذه الكلمات أعلن بعانخي دوافعه الدينية التي بررت له غزو مصر و بقية العالم كما سيفعل خلفاؤه.
وعلى لوحة انتصاره التي عُثر عليها في العام 1862 في معبد آمون على جبل البركل في نبتة عند الشلال الرابع للنيل وصف لما حدث. وهذه اللوحة من أهم الآثار التي تصف الأحداث الإجتماعية و السياسية في مصر في النصف الثاني من القرن الثامن قبل الميلاد.
أمر قائداه (باروما) و (ليميرسكنى) وسائر ضباطه في مصر، وقال لهم:
اتخذوا وضع الإستعداد، وخوضوا المعركة، و التفوا حول العدو وحاصروه. و أأسروا رجاله ومواشيه وسفنه النهريَّة وامنعوا المزارعين من التوجه إلى الحقول، والفلاحين من حرث الأرض. اضربوا الحصار حول إقليم الأرنب وقاتلوا العدو كل يوم بلا هوادة.
وأرسل جيشاً إلى مصر، و أوصاهم مشدداً قائلًا :
“لا تنقضوا على العدو ليلاً وكأنكم تلعبون وتلهون، ولا تحاربوا إلا وأنتم مبصرون، وخوضوا ضده المعركة دون الإقتراب منه. وإذا قال لكم: انتظروا المشاة وسلاح المركبات القادمة من مناطق أخرى. فتريثوا لحين وصول جيشه، ولا تبدؤوا المعركة إلا عندما يطلب ذلك، وإذا كان حلفاؤه في مدينة أخرى فأصدروا الأوامر بالإنتظار حتى يصلوا، وحاربوا في المقام الأول القادة العسكريين المصاحبين له كحلفاء، وحرسه الخاص من الليبيين؛ وعند استعراض الجيش قولو : أيا أنت أسرج أفضل ما في إسطبلك من جياد وهيء نفسك للمعركة، عندئذ سوف تعرف أننا رسل آمون”
وينصح بيَّا قواته قائلاً:
“إذا بلغتم طيبة و وقفتم أمام (ابت سوت) انغمروا في الماء وتطهروا في النهر وارتدوا الكتان النقي . وحطوا الأقواس و ألقوا السهام جانباً، لا تتباهوا بأنكم أصحاب سلطة في حضرة الذي بدون رضاه ليس للشجاع قدرة، فيجعل الضعيف قوياً، والجموع تتراجع أمام القلة وتعود أدراجها ويتغلب الفرد على ألف . وتبللوا بماء هياكله، وقبلوا الأرض بين يديه وقولوا له: أرشدنا إلى الطريق، فلنحارب في ظل قوتك ولتكن معارك المجندين الذين بعثت بهم مظفرة، وليستولى الرعب على الجموع عندما تواجههم.
ويبدو أن القوات الكوشية حاصرت القوات المصرية المتحالفة وأجبرتها على خوض المعركة، فارضة عليها الاحتماء بمدينة هرموبولس التي تمَّ ضرب الحصار عليها، فقط حينها توجه بعانخي بنفسه إلى مسرح العمليات متوقفاً في طريقه للاحتفال بالعام الجديد في الكرنك. وكان غرض بيَّا من ذلك مزدوجاً، فمن جانب أراد أن يعلن للملأ اعتراف امون به ملكاً، ومن جانب ثانٍ استهدف إضعاف القوات المصرية المُحاصرة بإطالة أمد الحصار تدميراً لروحها المعنوية. وأثناء ذلك اجتاحت قواته مصر الوسطى، ووصل إلى هرموبولس فأخضع ملكها (نمرود) .
كما استسلمت مدينة هيراكليوبولس دون أن تنتظر استيلاء بعانخي عليها واعترف حاكمها بولاية بيَّى في خطاب شهير مشحون بالعبارات الأدبية.
بعدها توجه بيَّى إلى الشمال واستولى دون مقاومة على القلعة التي شيدها أوسركون الأول لمراقبة مدخل الفيوم، ثم زار مدينة هليوبولس لأداء الشعائر التقليدية التي تقام للإله امون وقدم القرابين فوق تل الرمال، ويسرد النص أن بيَّى اتجه إلى “مقر رع في موكب رهيب، فدخل المعبد وسط تهليل الحاضرين والكاهن المرتل يتعبد للإله لإبعاد أعداء الملك، ثم اقيمت شعائر بردوات وربط العصابة الملكية، وتطهر جلالته بالبخور والماء. ووقف الملك بمفرده، وكسر ختم المزلاج وفتح مصراعي الباب وشاهد والده رع في قصر البن بن المقدس ومركب النهار المخصصة لرع ومركب المساء المخصصة لأتوم، ثم أغلق مصراعي الباب ووضع الطين وختم الملك بخاتمه الخاص، وأصدر تعليماته للكهنة قائلاً:
لقد قمت أنا شخصياً بوضع الختم، لن يدخل المكان أحد سواى ممن يدعون أنهم ملوك، وانبطحوا على بطونهم فوق الأرض قائلين: ثابت أنت ودائم، فليحي حورس محبوب رع، إلى الأبد! دخولاً إلى مسكن أتوم”.
بعدها واجهة بعانخي بعض حركات التمرد في شمال مصر بقيادة (تفنخت) آخر أبرز الشخصيات في الأسرة الرابعة و العشرين، و لكن سرعان ما استطاع بعانخي أن يخضعه لسلطانه و أن يضم قواته إلى الجيش الكوشي.
بعد تلك الانتصارات ثبت بيَّا حكام الدلتا المصريين كل في إقليمه متجنباً إعطاء الكثير للذرية الليبية لفراعنة مصر القدماء مستثنياً واحداً منهم فقط هو نمرود بوصفه متحدثاً نيابة عنهم. ويصف النص وصول أولئك الحكام لأداء فروض الطاعة والولاء: “لَّما أضاءَّ الأرض نهار جديد، حضر عاهلا الجنوب وعاهلا الشمال والصل على جبينهم وقبلوا تراب الأرض أمام قوة صاحب الجلالة. وهكذا جاء ملوك وقادة الشمال ليشاهدوا بهاءَ جلالته، وكانت سيقانهم ترتعش وكأنها سيقان نسوة، ولكنهم لم يدخلوا إلى مسكن الملك حتى لا يدنسوه بالنظر إلى أنهم لم يختنوا ولأنهم يأكلون السمك. أما الملك نمرود فقد دخل مسكن الملك إذ كان طاهراً ولا يأكل السمك”.
ومن ثم قرر بيَّى العودة إلى نبتة عاصمته الأولى مع تثبيت الحاميات العسكرية في عدة مناطق مصرية.
توفي بعانخي في نبتة بالقرب من جبل البركل في العام 716ق.م، و دفن في جبانة الكرو الشهيرة، حيث بُني له هناك هرم عظيم، تهدم معظمه نتيجة عوامل الطبيعة و لكن بقاياه لازالت شاخصة حتى يومنا هذا.
Copyright secured by Digiprove © 2020 Ashraf Eltom