اكتشاف الادوية بمساعدة الكمبيوتر

في الماضي كان يتم اكتشاف الادوية بطريقة عشوائية ولكنها منطقية . اذا ظهر مرض ما فان الاطباء و العاملين في مجال الصحة يبحثون عن نبات او مجموعة من النباتات و المواد الاخرى التي تعالج او تخفف هذا المرض و يكتبون و صفات طبية لهذا و احيانا كانت تصل عدد هذه المواد في مشروب ما الى عشرة و اكثر . و لا يمكن بالطبع نظرا لبساطة الادوات المستعملة تحديد ماهو المركب المحدد داخل هذه النباتات الذي قام بفعل العلاج . و اصبحت هذه الوصفات تنتقل من جيل الى جيل و واصبحت تكتسب شهرة و اسعة اذا كانت ناجحة و تدون في الكتب حتى وصلت الينا مجموعة من الوصفات استخدمها المصريين القدماء و الصينين و البابليين و العرب و الفرس والهند و كثير من القبائل الافريقيه و السكان الاصليين في امريكا على سبيل المثال لا الحصر .

 

و بسبب حركات الترجمة قامت هذه الحضارات و خاصة الحضارة الاسلامية ومن بعدها الحضارة الغربية الحديثة بترجمة و جمع هذه العلوم و تنقيحها و تفنيدها و التحقق من بعضها و اضافة بعضها و هكذا تطور هذا العلم . و يالها من قصص : ممتعة هي احيانا و مؤلمة احيانا في حوادث اخرى تلك التجارب التي مكنت المجتمعات من التعرف على الادوية القيمة و التخلص من الادوية الخطرة و منتجات الشعوذة التي وجدت في تلك العصور . و باذن الله سنذكر كثيرا من هذه القصص في مقالات قادمة .

 

نظرا لتطور العلوم الاخرى مثل علوم الاحياء و الكيمياء و وغيرها من العلوم التى بفعل تراكمها و تداخلها مع بعضها البعض اصبحت قادرة على النظر في تفاصيل المواد التي توجد في النباتات والمستخلصات و العناصر الطبيعية و المركبة . اصبح بالامكان الفصل بين مكونات النبات الواحد و تجربة كل مكون على حدة . و كذلك الفهم الادق لاسباب المرض مثل اكتشاف الكائنات الدقيقة من بكتيريا و فيروسات مرورا بالطرق التي مكنت العلماء من التعرف على انسجة الجسم المختلفة و انواع الخلايا المختلفة وتنميتها في المعامل و اخيرا اكتشاف المادة الوراثية و تركيباتها من احماض امينية و بروتينات و غيرها .

اصبح بالامكان الان ولاول مرة التنبؤ بمفعول مركب ما نظريا على الاقل . واصبحت كثير من الادوية تكتشف على اساس ( التنبؤ ثم التجربة ) بالاضافة الى الطرق السابقة ( التجربة ثم التفسير ) و اتجه هذا الحقل من العلوم ( اكتشاف الادوية ) الى اتجاه جديد و مثير يحمل بين طياته الكثير من الامل و الكثير من التقدم .

تطور علوم الكمبيوتر و الرياضيات ادى الى امكانية محاكاة العمليات الحيوية داخل برامج هندسية مصممة بحيث يستطيع الباحث تحديد الهدف الذي يريد الباحث التاثير عليه بصفته احد مسببات المرض او تجسيدا له  . و بعد تحديد هذا الهدف يستطيع الباحث تجربة عدد كبير جدا من المركبات الكيميائية لمعرفه مدى تاثيرها و ارتباطها بهذا الهدف .

صورة من احد البرامج المصممة لمحاكاة التفاعلات الحيوية

 

لنقل جدلا اننا نريد القضاء على طفيل الملاريا و بعد دراستنا لهذا الطفيل وجدنا انه يمتلك بروتينا على سطحه الخلوي اساسيا لحياته وهو الذي يجعله مثلا يلتصق بخلايا الدم الحمراء و اصابتها . و اقترح الباحثون انه بتعطيلنا لهذا البروتين او تغيير شكله او حتى تقييده فانه بامكاننا ان نمنع طفيليات الملاريا من الالتصاق بالخلايا الدم الحمراء و اصابتها . وبالتالي نظريا يمكننا ان نعالج الملاريا بهذا المركب . لنفترض جدلا ان هذه هي المشكله التي امامنا . و الان لناتي الى الحل ؟

في السابق كان علينا ان نستخلص المئات بل الالاف من المركبات و جمعها في ما يسمى مكتبة المركبات و من ثم تجرب كل واحد منها على حدة على طبق تجارب بداخله طفيل الملاريا و كريات الدم الحمراء و معرفه من من هذه المركبات منع طفيل الملاريا من اصابة الخلايا عن طريق فحصها بالمجهر و من ثم محاولة معرفة سبب هذا النجاح ومقارنته بباقي المواد لمعرفة افضلها .

لاحظ ان لكل ماده هناك عملية استخلاص ثم تجربة ثم ملاحظة و تفسير ولنقل اننا سنفعل هذا 10 الاف مرة لاننا نملك 10 الاف مركب نريد دراسته . هذا ما كان يتم فعلا و ياخذ عدة سنوات و يستهلك جهدا و موارد و عدد كبير من العلماء و مالا اكثر و من كل هذه الالاف من المركبات سنصل الى مركب واحد هو الافضل و في بعض الاحيان لن نصل الى شيء فحتى افضل المركبات لن يكون مؤثرا لدرجه ان يستخدم كعلاج لاننا بالطبع لم نجرب كل المركبات في الطبيعة : فقط 10 الاف مما لدينا .

 

الذي تغير هو ان البرامج الهندسية الحاسوبية التي اشرت اليها سابقا تم تصميمها بحيث تحاكي شكل البروتين الذي نستهدفه و كذلك شكل المركبات التي نريد تجربتها والاهم من هذا محاكاة التفاعل بينهما . بالتالي يمكننا بسهولة تجربه هذه المركبات ال10 الاف مع بروتين الملاريا في الكمبيوتر خلال اسبوع فقط مثلا و بتكلفة تقدر بتكلفة الكهرباء التي تشغل هذا الكمبيوتر فقط . سنوات اختصرت الى اسبوع .

ومن ثم يقوم الكمبيوتر بحساباته و يعطينا افضل 10 مركبات .. و تنتهي الخطوة الاولى .. و يدخل العلماء الى المعمل ب 10 مركبات فقط للتجربة بدل 10 الاف مركب . وتتم باقي التجارب كالمعتاد بعدما اختصرنا سنوات من الابحاث والاموال في خطوة سهلة .

 

من الجدير بالذكر اننا كمجتمعات تفتقر الى ميزانيات البحث العلمي الكافية و الادوات البحثية المتطورة بينما  نملك المهارات و الافكار  . و لهذا اشير الى اهمية هذه التطورات الجديده التي تمكننا ان نشارك في الابحاث العلمية المعقدة بعد ان تخلفنا عنها سنينا. فجهاز كمبيوتر متوسط و عدة برامج و معرفة جيدة بالمرض او الافة التي نريد استهدافها يجعلنا نخرج بمقترحات و معلومات اولية قيمة عن دواء مقترح و يمكن تقديم هذا المقترح لعالم اخر ليقوم بالتحقق منه معمليا ثم تخرج النتائج الى عالم اخر ليقوم بدراسة المركب و مدى صلاحيته كدواء . كذلك يمكننا بناء المزيد من هذه التطبيقات الحاسوبية و انشاء مكتبات الكترونية للمركبات المحلية لاثراء المحتوى و المساهمة بشكل فعال في هذه المسيرة .

وبالمناسبة فان تعلم هذه البرامج و استخدامها هو شيء يسير و متاح للجميع . هذه الطريقه ليست فقط لاكتشاف الادوية و لكنها ناجحة ايضا في العلوم الزراعية و مكافحة الافات و القضاء على التلوث و مجموعة كبيرة لا حصر لها من التطبيقات اكبر مما نتخيل. فهذا التزاوج بين الكمبيوتر و العلوم الحيوية انتج علما يسمى بالمعلوماتية الحيوية  أو الـ (Bio-informatics ) وهو مجال اوسع من يكون فقرة في مقال بل يحتاج ان نفرد له مقالا منفصلا .

و اعلم ان هذا المقال يخفي اكثر مما يكشف و لربما جال في خاطرك عزيزي القارئ هذه الافكار : ماهي هذه البرامج و كيف اتعلمها و هل هي مجانية ؟ هل يمكن لاي شخص استخدامها وما مدى موثوقيتها و هل نجحت بالفعل في انتاج ادوية و مركبات ناجحة ؟ المراجع .. الدورات .. الكتب .. اريد المزيد ؟

هذه الاسئلة باذن الله هي ما سنجيب عنه في المقالات القادمة الى ذلك الوقت دمتم بود و دمتم سالمين !

 

Related posts

الكوليرا حيث الماء سر الحياة وسر الموت

آلام مخفية

العلاج بالطب البديل

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...