يتفق الباحثون والمفكرون على أن الكائنات ليست متطابقة إنما قائمة على التنوع والاختلاف، يشمل ذلك الأجناس والألوان والألسن واللغات والأوطان والبيئات والأديان والعادات والتقاليد وطرق العيش وغيرها. إن كثافة التنوع تحتاج إلى إدارة حصيفة وعادلة، من أجل تحقيق نتائج إيجابية، وتفادي السلبيات. كيف نتعامل مع هذه المسلمة في إطارها الأممي مع تركيز خاص على حالة السودان الذي يتسم بأنه بلد ثقافات متنوعة.
التنوع الثقافي من وجهة نظر أممية
كما أكدت اليونسكو في مؤتمرها لعام 2005م للدورة الثالثة والثلاثين أن التنوع الثقافي سمة مميزة للبشرية ينبغي إعزازه والمحافظة عليه لفائدة الجميع، لأنه يشكل ركيزة أساسية للتنمية المستدامة للمجتمعات والشعوب والأمم، إضافة إلى ذلك يزدهر التنوع الثقافي في رحاب الديمقراطية والتسامح والعدالة الاجتماعية والإحترام المتبادل بين الشعوب والثقافات.
إشكالية التنوع الثقافي من وجهة نظر سودانية
السودان، كما نعلم، بلد شاسع، تمتد حدوده مع عدة دول أفريقية وعربية، فهو ملتقى طرق إلى افريقيا. يشير الباحثون إلى السودان على إنه افريقيا المصغرة، وذلك لأنه يضم أعراق مختلفة تجانست فيما بينها. كانت النتيجة تيارات ثقافية متنوعة في السودان تمتد جذورها بعمق، فقد كان منطقة جذب لكثير من العناصر البشرية في فترات تاريخية مختلفة.
نجد أن التنوع الثقافي الظاهر والملحوظ في السودان كثيف لأنه نجم عن عاملين رئيسين هما على النحو الآتي:
أولا: العامل الجغرافي:
يرجع لعظم المساحة وتنوع التضاريس وتباين المناخات وتعدد وتنوع المجموعات السكانية التي ظلت تقطن فيه، واختلاف ثقافاتها وسبل كسب عيشها. كما للسودان موقعه الاستراتيجي، في ملتقى الطرق بين افريقيا الشمالية المدارية. لذلك، أصبح حلقة وصل بين شرق القارة الافريقية ووسطها وغربها، مجاوراً للجزيرة العربية وللبحرين الاحمر والابيض المتوسط.
ثانيا:العامل التاريخي:
فقد ظل السودان يشهد مظاهر الاستيطان البشري منذ احقاب موغلة في القدم، كما ازدهرت فيه حضارات وممالك عريقة كانت تمثل بؤر جذب واشعاع عظيمة، امتد تأثيرها على نطاق واسع، مثل ممالك كرمة ونبتة ومروي ثم الممالك المسيحية، ومن بعدها السلطنات الاسلامية.
تجدوني اتفق مع الدكتور يوسف حسن مدني، الباحث في قضايا التنوع والثقافة المادية، حيث أشار إلى أنّ الثقافة السودانية تم رفدها بالعديد من التيارات الثقافية، عن طريق التجارة والهجرات البشرية والغزو والاستعمار. فهي ثقافة في غاية التنوع: ثقافة حوض البحر الأبيض المتوسط، ثقافة ما بين النهرين، والثقافة المصرية القديمة. بعد ذلك، نجد المسيحية، الإسلامية-العربية، التركية متمثلة في الحكم التركي، وحكم الإدارة البريطانية. بذلك يمكننا القول ان الثقافة السودانية بنيت في أرض افريقيا، إلا أن تنوع المناخ الاجتماعي والسياسي في السودان سمح بتقبّل انماطاً ثقافية أخرى، الامر الذي مهد لظهور مكون ثقافي جديد في كل مرحلة تاريخية.
مدارس الثقافة السودانية من وجهة نظر باحثين سودانيين
المدرسة الأولى، الثقافة السودانية ثقافة نوبية حيث أن الممارسات والسلوك الحالي للإنسان السوداني يحتوي على عادات وتقاليد كانت موجودة في المجتمع النوبي القديم وأن اللغة العربية فيها بعض المفردات النوبية.
المدرسة الثانية، الثقافة السودانية ثقافة عربية وأن المقصود هنا اللغة العربية المشتركة بين السودانيين، حيث هاجرت قبائل عربية إلى السودان قبل دخول الإسلام بفعل عوامل اقتصادية أو سياسية أو جغرافية.
المدرسة الثالثة، الثقافة السودانية ثقافة أفريقية على اعتبار أن المجتمع السوداني يمارس عادات وتقاليد ومعتقدات ذات طابع أفريقي مثل الكجور، والزار، والسلم الخماسي الموسيقي الموجود في أفريقيا.
المدرسة الرابعة، الثقافة السودانية ثقافة متعددة ومتنوعة حيث أنها ثقافة ذات انتماء متنوع فنجدها عربية على اعتبار أن اللغة العربية هي اللغة المشتركة بين أغلب المجموعات الثقافية السودانية، ايضا نجدها أفريقية الانتماء بحكم الجغرافيا.
فشل إدارة التنوع الثقافي في السودان
في رأيي أن الثقافة السائدة في الدولة السودانية منذ الإستقلال وحتى يومنا هذا ثقافة أحادية الجانب. فهي تتمحور حول الثقافة العروبية-الإسلاموية، مع اهمال كامل لبقية الثقافات الأخرى. نجد أن النخب السياسية المتعاقبة في الحكم من الاستقلال وإلى يومنا هذا، فشلت في إدارة هذا التنوع، ولم تستطع صياغة أو تطوير منهج متكامل لإدارة التنوع الثقافي في البلاد. والأخطر من ذلك، أصبح هذا التنوع عامل سالب ساهم في اشتعال نار الفتنة والنزاعات والحروب في السودان، حروب أنهكت البلاد والعباد، اقتصادياً واجتماعياً. نذكر من تلك الحروب حرب الجنوب التي انتهت بانفصاله في العام 2011م، النزاعات في جبال النوبة والنيل الازرق ودار فور، والحرب التي اندلعت في أبريل 2023 ومازالت مستمرة.
بعد أن تضع الحرب الحالية أوزارها ، سيجد السودان نفسه في حاجة ضرورية إلى تأسيس نظام حكم فدرالي مدني يتوافق مع وضع السودانيين، وتشارك فيه كل فئات المجتمع السوداني دون تمييز. على هذا النظام أن يسعى إلى تحقيق العدالة الثقافية، توزان اجتماعي بين المركز والهامش، وتوزيع عادل للسلطة والثروة بين الاقاليم والمدن السودانية كافة.
لفت نظري المداخل التي أثارها الباحث في علم الاجتماع البروفسير شريف حرير في ندوة اسفيرية له عبر منصة الزووم، والتي نظمها منتدى سوداناب الثقافي، لقد أورد في هذة الندوة معلومات ثرة تتعلق بمعالجة الفشل الذريع في إشكالية إدارة التنوع الثقافي في السودان، وأشار إلى أن عملية إدارة التنوع الثقافي في السودان تحتاج أن تمر بمراحل اساسية لابد من توفرها يمكن صياغتها على النحو التالي.
أولا: البحث العلمي من قبل الباحثين لأجل التعريف بالمكونات الثقافية ومناطق المجموعات الثقافية ودورها في عملية تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد، ايضا لأجل ان يتم صياغة ووضع منهج متكامل لإدارة التنوع الثقافي في السودان.
ثانيا: يأتي دور الحكام والساسة في نقل الجهد العلمي المبذول من قبل الباحثين إلى أن يكون مادة دستورية تنص على الاعتراف الصريح بأن السودان بلد تنوع ثقافات، وان هذه الثقافات تحظى بالحقوق والعدالة بغض النظر عن الاغلبية والعدد لأي منها.
ثالثا: تغيير المنهج الدراسي لكي يتماشى مع عملية إدارة التنوع الثقافي ويخدمها ويثقف النشء بأن السودان دولة تنوع ثقافي، وبالتالي خلق ارضية وطنية ديمقراطية ثابتة تجعل الطفل يتعرف على ان هناك اشخاص اخرين لديهم ثقافة مخالفة لثقافته لابد من تقبلها واحترامها وهكذا ينمو مبدا احترام الرأي الآخر.
رابعا: العمل بجدية تامة من اجل تأسيس البنيات الاساسية لأدوات الثقافة في الأقاليم المختلفة مثل المعارض، المسارح، دور السينما والمطابع وغيرها.
ختاماَ في رأيي إن فشل إدارة التنوع الثقافي سبب أساسي للحروب في السودان، آخرها سيناريو الحرب السودانية الحالية والتي نأمل إنهائها في القريب العاجل. نحن السودانيين اليوم أحوج إلى الالتفاف حول مقولة المناضل السوداني الثوري، علي عبد اللطيف، أثناء محاكمة الانجليز له،
أيضا بعد أن تضع الحرب أوزارها نحتاج إلى التعليم الفعال والإعلام الهادف لكي تصبح عملية إدارة التنوع الثقافي واقعا ملموسا معيشا في السودان