في قلب السودان، حيث كان ينبغي أن تثمر الأرض خضرةً وازدهارًا، نجد أن الأوبئة والأمراض قد انتشرت في أرجاء البلاد كأنها تحمل رسالة حزنٍ وغضبٍ في طياتها. هي أمراض كان بالإمكان تجنبها، ومعاناة لا داعي لها، لولا ما ارتكب من إهمال في بناء البنية التحتية وما استمر من تجاهل لحاجة الناس لمياه نظيفة وشبكات صرف صحي سليمة.
فقد تكالبت علينا الحرب لتزيد من تعقيد الأمور، لكنّها ليست وحدها المسؤولة عن هذا الانهيار الصحي؛ بل المسؤولية تقع على كاهل كل من أهمل، وترك هذه المرافق تتآكل وتتهالك أمام أعيننا.
في زمن الحرب، تزيد التحديات، وتُحكم حلقاتها، فتجد أن الماء الذي هو أساس الحياة قد أصبح مصدرًا للألم والمرض. الكوليرا تفتك بالضعفاء، وحمى الضنك تستغل ضعف البنية التحتية الصحية، والملاريا تنتشر كالظل الدائم في أماكن لا تصلها الرعاية الكافية. وأين نحن من كل هذا؟ أليس من واجبنا أن ننتفض ونطالب بحقوقنا؟ ألا ننهض ونعمل جميعًا على إصلاح ما أفسده الإهمال؟
إن إصلاح البنية التحتية اليوم ليس رفاهيةً، بل هو واجبٌ وطنيٌّ وإصرارٌ على الحياة. نحن بحاجة إلى توجيه الجهود نحو بناء نظامٍ صحيٍّ متينٍ قادرٍ على مواجهة الأزمات.
في مشهدٍ مليء بالمآسي، لم تبدأ القصة بانهيار خزان أربعات، الذي كان يعدّ شريان الحياة في مناطق شرق السودان. ولكن انهياره كان احدى حلقاتها .لم يكن الانهيار مجرد خللٍ هندسيّ؛ بل كان جرس إنذار على فشلٍ طويل الأمد في إدارة الموارد وتطوير البنية التحتية. تحولت المياه التي كانت تُمدّ المنازل والشوارع بالنقاء إلى تياراتٍ من المياه الملوثة، تختلط برواسبٍ وأوساخٍ جرفتها الأيام. ومع تلوث مصادر المياه الأساسية، لم يعد أمام الأهالي إلا اللجوء إلى تخزين المياه بطرقٍ عشوائية، بعيداً عن أي حمايةٍ أو تعقيم، في أوعيةٍ مكشوفة تفتقر إلى أدنى معايير السلامة.
مع تدهور الوضع، بدأ الناس يعيشون على المياه الملوثة، واستمر تكدسهم في مناطق النزوح هربًا من ويلات الحرب. لم تكن مخيمات النازحين مجهزة بمرافق صحية مناسبة، ونتيجة لذلك، أصبحت هذه التجمعات بيئةً خصبةً لانتشار الأمراض. الكوليرا بدأت تفتك بأجساد ضعيفةٍ لم تجد حمايةً من أبسط أساسيات الحياة؛ حمى الضنك تتسلل عبر البعوض الذي وجد في البرك الراكدة والمياه الملوثة مكانًا للانتشار؛ أما الملاريا، فهي الأخرى توغلت في المناطق النائية حيث الرعاية الصحية غير كافية والأدوية نادرة.
وسط هذه الفوضى، بقي الإهمال سيد الموقف. الجهات المعنية كانت غائبة، وغاب معها الدعم والصيانة، فزاد الضغط على مرافق صحية متهالكة. أصبح كل يومٍ يمرّ بمثابة معركةٍ جديدةٍ يخوضها الناس ضد أمراضٍ من صنع الإهمال، وانتشرت بينهم كأنها نذيرٌ من الماضي المتراكم، يذكّرهم بأن غياب التخطيط وسوء الإدارة قد ينهش في أرواحهم قبل أجسادهم.
رغم صعوبة الظروف، يبقى الأمل قائمًا بأننا نستطيع أن نصنع التغيير بأيدينا. إن الأزمات ليست نهاية الطريق، بل بدايةً لفرصة جديدة نستطيع من خلالها أن نبني مستقبلًا أكثر أمانًا وصحةً لنا ولأطفالنا. بعض الخطوات يمكن لكل فرد منا أن يشارك بها لتحسين أوضاعنا:
1.
إن أول خطوات الحماية تبدأ من نظافة الماء. فلنحرص على تخزين المياه في أوعية نظيفة ومغطاة، ونتجنب تركها مكشوفة للغبار أو الحشرات. يمكننا أيضًا استخدام المواد المتاحة مثل الأقمشة النظيفة لتصفية الشوائب، وبهذا نحافظ على نقاء المياه قدر الإمكان.
2.
بالعمل الجماعي نستطيع أن نُحدث فرقًا كبيرًا. فلنكن جميعًا يدًا واحدة لتنظيف الأماكن المحيطة بنا، والتخلص من أي مياه راكدة قد تصبح موطنًا للبعوض الناقل للأمراض. لنشجّع بعضنا على إلقاء النفايات في أماكنها المناسبة ونتشارك في حماية بيئتنا.
3.
المعلومة أداة قوية بين أيدينا. لننشر الوعي بيننا، ونتعلم كيفية الوقاية من الأمراض الشائعة. فمثلًا، يمكننا استخدام الناموسيات لتجنب لسعات البعوض، وغسل اليدين بانتظام للتقليل من انتشار الأمراض المنقولة بالماء. كما يمكن للأمهات توعية الأطفال بأهمية النظافة الشخصية.
4.
فلنبدأ بتنظيم مبادرات بسيطة لجمع الموارد، سواء كانت مواد تنظيف أو أدوات تخزين أو حتى ملابس واقية. يمكن لكل مجموعة صغيرة أن تتعاون لتوفير احتياجاتها، مما يخفف الأعباء ويعزز روح التكاتف.
5.
التواصل هو طريقنا لجذب المساعدة. فلنتعاون في إيصال احتياجاتنا للمنظمات الإغاثية والمتطوعين، سواءً من خلال وسائل التواصل المتاحة أو عبر القادة المحليين. صوتنا الجماعي سيساعد في إيصال الرسائل الصحيحة عن احتياجاتنا وأولوياتنا الصحية.
6.
لدينا عقول شابة وموهوبة في مجتمعنا، فلنشجعهم على ابتكار حلول محلية للمشاكل التي نواجهها، مثل إعادة تدوير المواد المتاحة أو تصميم وسائل بسيطة لتعقيم المياه. دعم الشباب على الإبداع سيساهم في إيجاد حلول مستدامة ومناسبة لظروفنا.
صحيحٌ أن التحديات كبيرة، لكن قوتنا في تماسكنا وإرادتنا الصلبة على تجاوز الصعاب. إن مسؤولية تحسين الأوضاع ليست على جهةٍ واحدة فقط، بل على كل فردٍ منا. فلنحوّل هذه الأزمات إلى فرصةٍ للنهوض من جديد، ولنبني معًا حياةً أفضل لنا وللأجيال القادمة.
هذا المقال ليس إلا خطوة أولى، مجرد تسليطٍ للضوء وجذب للانتباه نحو قضيةٍ لا يمكن تجاهلها. إنها البداية فقط، لنشعل الهمم ونستجمع القوة، ونمهد الطريق نحو فهمٍ أعمق وإيجاد حلول جذرية لأزماتٍ تفتك بصحة مجتمعنا.
سنسعى من خلال سلسلة من المقالات القادمة إلى تقصي الحقائق بعمق ودقة، وسنبدأ تحقيقات صحفية مدعومة بالمراجع العلمية والتحاليل المختبرية، لتحديد جوهر المشكلة ورصد آثار الإهمال بعيونٍ مفتوحةٍ على الحقائق. سنستعرض في كل مقال مرضًا محددًا وأسبابه، ونكشف النقاب عن طرق الوقاية منه وخطواتٍ علميةٍ وعمليةٍ قابلةٍ للتنفيذ لمكافحته.
هدفنا أن نرفع الوعي، وأن نوجه مسار النقاش نحو تحسين أوضاعنا الصحية بأدوات العلم والمعرفة. فهذا المقال ما هو إلا مقدمةٌ تحفّز العزائم وتؤكد أننا، معًا، قادرون على بناء مستقبلٍ أكثر أمانًا وصحةً لنا جميعًا.
في هذه الأوقات العصيبة، نقف معكم بقلوبنا ودعواتنا، داعين الله أن يمنحكم الثبات والصبر على ما تمرون به من تحديات. فأنتم، رغم الألم والمعاناة، صامدون وقادرون على مواجهة الصعاب بقوة وعزيمة.
لستم وحدكم، فإننا جميعًا، رغم المسافات، نشعر بآلامكم ونقف إلى جانبكم بكل وسيلة متاحة. اصبروا، فالصبر مفتاح الفرج، وتذكروا أن الأمل هو ضوء النهار الذي يتسلل من بين حطام الظلام.