أمدرمان

إنقطع التيار الكهربائي كالعادة وهو الأمر الذي بات جزءً من تفاصيل حياتنا وواقعاً لا مفر منه ، و كالعادة أيضاً هنالك ( حبة شتيمة لناس الكهربا ) ، و كم دعوة على الشخص المُكلف بقطع الكهربا .
وطبعاً هو ذات الشخص الذي ندعو له عقب عودتها بـ ( ربنا ينورا عليك دنيا و أخرة ) ، شوفتوا قدر كيف إحنا شعب طيب و بنسامح بأبسط الأشياء ؟!

ولأني شخص أهوى جو ( الحيشان ) ، كنت كل ما إنقطع التيار الكهربائي أشعر بالضيق و ( الخنقة ) ، فهذا البُنيان الرأسي الذي ساهم كثيراً في حل مشكلة السكن لعدد كبير من المواطنين ، هو نفسه الذي حرمنا من نعمة الليل ، حرمنا من ( قمره الذي لا يقارن بأجمل النجف ، من سكونه و نسيمه الذي لا تستطيع مكيفات الفريون أن تأتي بمثله ) .
كُنت يومها مع أقاربي ، فكالعادة لم أستطع تحمل حرارة الجدران و خنقة المكان ، ذهبت للسطح لعلني أجد نفسي بين هبوب الرحمن و سكون ليله الذي أحب .
وجدتُ غايتي يومها و لمستُ في ليلتي تلك بعض الذكريات التي سرقتني إلي محبوبتي ، إلي ماضيَ الذي لطالما كنت ولا أزال به أفتخر ، إلي داري الذي نشأت به و الحي الذي ترعرعُت فيه ، إلي الحوش و نومة الحوش ، وراديو ( مونتي كارلو ) و صوت العصافير بعد الفجرية ، إلي أمي و حبيبتي الأولى و الأخيرة ( أمدرمان ) .
و عندما أستحضر أمدرمان التي أحب في الخاطر ، تأخذني مُخيلتي إلي طفولة لم تكُن سهلة و حياة لم تكُن ذات رفاهية و مُعاناة لم أرى أصعب منها ، لكنها جميلة و أجملُ ما فيها (تفاصيلها) .
فيسألني أحدهُم ، ألا تُعجبك بحري ؟! ، أولست الأن مِنا و محسوباً عليها ؟!
أجيبه :
ومن في السودان لا يُحب بحري ، وما كره أحدهم بحري إلا وكان من الكارهين لنفسه ، ولكن :
رحل الجسد بحري
بس القلب في أمدُر
أصله الجسد مجبور
ما زي قليبه الحُر
قال : حدثني عن أمدرمان ..
قلت : من أين أبدأ ؟!
من طفولتي و لعبي في حواريها ؟! ، بدايةً من ( سياراتي الفارهة ) التي صنعتها بنفسي من ( علب الصلصة ) ، أم من السيوف التي كنا نذهب للحدادين بحي أبوروف يصنعوها لنا ؟!
أم أحدثك عن دافوري الحلة في ميدان القلعة ، و أحياناً في تُرب أبّو حبيب حيثُ ( أل سعيد وناس قناوي و السراريج ) ؟!
أم عن شلة البوش و لماتنا بالليل للعشاء ، و لمتنا الصباح وإحنا ماشين المدرسة ؟!
أم عن شهر رمضان البنعرفوا قرب من ريحة الأبري الطالعة من كل بيت و كل شارع ، أم عن أمهاتنا وقت يتبادلن ( الرُقاق ) بيناتن ؟!
أم عن لمة شباب الحلة و إجتماعهم إللي بتكون أهم مخرجاته ( التعاون ) في مساعدة بعض استعداداً للعيد من إعادة تأهيل للمنازل من طلاء الجدران و الابواب الخ …
أم عن بت الحلة إللي لم نكن نسمح لها بالذهاب للدكان فتُلبى طلباتها وهي في دارها معززة مكرمة ، أم عن اخت صاحبي إللي هي كدة كده أختي ؟!
أم عن أبو صاحبي إللي ممكن ( ينهرني ويضربني ) عادي لو ارتكبت خطأ لأنه أبوي التاني .
أم عن أستاذي إللي لما كان يجي ماشي في الشارع أسيب الكورة و أجري البيت ؟!
من أين ابدأ ؟! ، من أسرها العريقة ؟! فمن سأذكر ؟! أسرها العريقة ، فمن سأستحضر ..
( أل أورو ولا أل عربي ولا أل القباني ولا أل العجيل ولا أل مكي ولا أل صبره ولا أل هريدي ولا أل الشفيع ولا أل حمدتو ولا أل المرضي ولا أل الغول ولا أل البنا الخ … ) و القائمة تطول ..
أم عن الفن إللي أغلبه طلع من حي العرب ، من المسالمة ، من حي العمده و من عباسية زيدان ؟!
أم عن تاريخها السياسي المتمثل في الزعيم الأزهري وعبد الله خليل والمهدي وجعفر نميري وووو الخ .
أم عن هلالها و مريخها ؟! ، قُطبي الكُرة السودانية .
أنت حقاً تحرجني بسؤالك عن أمدرمان ، فأمدرمان كُل شي فيها مَعلَم ..
كل شارع ، كل بيت ، كل غنية و كُل قصيد !
أمدرمان حاجة تانية ، و الما عاش تفاصيلها ما عاش ولا ليلة ..
يلا ننزل ، الكهربا جات !
كل الود

Related posts

السودان ما بعد الإتفاق الإطاري

حوار الطرشان

الصحافة مسؤولية .. وليست جريمة

1 تعليق

ساجدة مبارك 2020-07-17 - 3:23 صباحًا
مقال جميل وموفق.. سدد الله خطاك
Add Comment

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. أقرا المزيد...